أبرزت المداخلات الرئيسية للمسئولين الأوروبيين والأمريكيين فى مؤتمر ميونيخ للأمن مسافة خلاف تتسع رويداً رويداً حول العديد من القضايا والأزمات الدولية والإقليمية، وبما يقود إلى عملية تغيير فى طبيعة التحالف الغربى من جهة، والدخول فى عملية جديدة لإعادة هيكلة النظام الدولى من جهة أخرى. والأمران معاً يُعقدان تسوية القضايا الراهنة ويفتحان الباب أمام نشوء أزمات دولية وإقليمية جديدة قد تستمر عدة عقود بلا أفق للحل. والواضح أن النظام الدولى فى مرحلته الحالية يعانى من غياب نموذج القيادة الأمريكية التى اعتاد عليها الغربيون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قبل سبعة عقود، حيث كانت الولايات المتحدة تبادر بتحديد مصادر التهديد والخصومات الكبرى، وطرح البدائل والخيارات المختلفة التى ترسخ قيادتها العالمية، وتنفق على الكثير منها، وتضع قواعد العمل، وتطالب الشركاء بمساهمات رمزية، فى الوقت الذى يسير فيه الغربيون فى الركب دون أى اعتراضات تذكر. وهى الصيغة التى تترنح الآن من خلال التغيرات السلوكية والقيمية التى فرضها الرئيس الأمريكى ترامب استناداً إلى استراتيجية أمريكا أولاً، والتى تعنى فى أبسط معانيها أن تكون كل محاور الحركة الأمريكية عالمياً تصب فى تحقيق مصالح الولايات المتحدة بغض النظر عن مصالح الآخرين، بما فى ذلك مصالح الشركاء التاريخيين وفى المقدمة الشركاء الأوروبيون، أو ما يعرف بالعالم القديم حسب وصف نائب الرئيس ترامب، مايك بنس.
ووفقاً لهذه الاستراتيجية فإن أمريكا تتخذ القرارات الكبرى دون استشارة أحد من شركائها، وتدعوهم إلى الموافقة العمياء عليها دون أى اعتراض، والمشاركة فى الأعباء دون تردد، ووضع إمكانياتهم لتحقيق ما تراه الولايات المتحدة مصالح عالمية كبرى، سواء وافق عليها هؤلاء الشركاء أم لم يوافقوا. ومثل هذه الصيغة تعنى فى أبسط معانيها قيادة التابعين مغلولى الإرادة. وهو ما يثير لدى الأوروبيين بوجه عام نوعاً من التحفظ، ولدى القوى الأوروبية الرئيسية، كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا نسبياً، نوعاً من القلق على مصالحهم الذاتية من جهة، وعلى طبيعة النظام الدولى الذى تريده الولايات المتحدة من جهة أخرى، وعلى أمنهم القومى المباشر من جهة ثالثة.
وإذا كان الهدف الأكبر الذى يعقد من أجله مؤتمر ميونيخ للأمن هو فرصة الحوار وتبادل وجهات النظر بين المسئولين بطريقة غير رسمية، وبما يساعدهم على وضع حلول توافقية للمشكلات التى تعترض علاقاتهم البينية، فما حدث فى النسخة الأخيرة للمؤتمر كان على العكس من ذلك، إذ جسد رؤى متباعدة، ومشكلات فى الأفق وأزمات محتملة ستعيد تشكيل العلاقات الأوروبية الأمريكية بوجه عام، والتفاعلات الأمنية بوجه خاص. وهنا تبرز عدة قضايا جوهرية، منها مصير حلف الناتو فى ضوء التهديدات الأمريكية بالانسحاب من الحلف إذا لم يرفع الأعضاء نسبة مساهماتهم فى حدود 2٪ من إجمالى الناتج القومى لكل منهم، والموقف من الأمن الأوروبى بعد الانسحاب الأمريكى من معاهدة الحد من القوى النووية المتوسطة الموقعة مع روسيا 1987، والانسحاب الأمريكى غير محدد المعالم من سوريا وأفغانستان، وحرية التجارة واعتبار الرئيس ترامب وإدارته أن بعض المنتجات الأوروبية تشكل تهديداً للأمن القومى الأمريكى، لا سيما السيارات الأوروبية التى تشكل نسبة كبيرة من صادرات أوروبا إلى السوق الأمريكية، والضغوط السياسية والاقتصادية على روسيا وإيران، خاصة الأخيرة، بعد الانسحاب الأمريكى من الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووى، وتطورات الوضع فى فنزويلا واعتبار «جوايدو» رئيساً شرعياً رغم خروجه على الدستور الفنزويلى، وقضية تسلم إرهابيى «داعش» من الجنسيات الأوروبية.
ومن خلال المداخلات التى شهدها مؤتمر ميونيخ تبدو كل من ألمانيا وفرنسا عازمتين على المضى قدماً فى تشكيل بنية أمنية أوروبية يتم الاستناد إليها فى حماية الأمن الأوروبى إذا ما تضعضع حلف الناتو حال انسحاب الولايات المتحدة لسبب أو لآخر، أو تقاعست عن تقديم الحماية المناسبة لردع أى تهديد روسى تقليدى أو نووى، وهو ما تعتبره واشنطن نوعاً من الازدواجية فى الهياكل الأمنية التى سيؤدى التنافس بينها إلى إضعافهما معاً. والواضح فى كلتا المقولتين قدر من الصحة، وفى الآن نفسه قدر من الضغوط المتبادلة التى تستهدف صياغة جديدة لمجمل المعادلات الأمنية عبر الأطلنطى، وهو ما يتداخل مع قضية عزل روسيا والتى يسعى إليها البيت الأبيض عزلاً تاماً، وحشرها فى الزاوية التى لا تمكنها من النهوض الاقتصادى أو العسكرى بأى شكل كان، وهنا أيضاً توضح المواقف التى أعلنتها أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا، أن الرؤية الأمريكية تشكل خطراً على أمن بلادها خاصة وأمن أوروبا عامة، إذ إن عزل روسيا وفق المنطق الأمريكى سيؤدى إلى توجهها بقوة للتحالف مع الصين، وسيحرم أوروبا من أى قدرة على الضغط السياسى أو الاقتصادى على روسيا إذا تطلب موقف معين مثل هذا الضغط، وسيكون الأمر مفارقة كبرى مقارنة بما كانت عليه علاقات ألمانيا مع روسيا والاتحاد السوفيتى السابق، حيث وجدت قنوات اتصال واعتماد متبادل فى مجال استيراد الغاز الروسى، وهو ما يصعب تصور اختفائه فى المرحلة الحالية أو المقبلة، وفقاً لـ«ميركل».
وتعد الخلافات حول الانسحاب الأمريكى من كل من سوريا وأفغانستان دون تنسيق كافٍ مع الشركاء الأوروبيين بمثابة دعوة لهم للتخلى عن صيغة أى تحالف مستقبلى مع واشنطن إذا ما استمرت الإدارة الأمريكية الحالية أو المستقبلية فى الالتزام بمبدأ أمريكا أولاً، وفق رؤية الرئيس ترامب. وفى السياق ذاته تبدو التهديدات الأمريكية بإطلاق سراح مقاتلى «داعش» من ذوى الجنسيات الأوروبية والمحتجزين لدى قوات حماية الشعب الكردية فى شمال شرق سوريا، والمقدر عددهم بثمانمائة مسلح، بالإضافة إلى ألف وخمسمائة امرأة وطفل، بمثابة عامل ضغط معنوى وسياسى بهدف إحراج الأوروبيين، وتأكيد أنهم مسئولون عن ظاهرة «داعش» وعليهم تصحيح الخطأ. غير أن الموقف الأوروبى المتردد يصب فى إثبات أن مبدأ المسئولية والمحاسبة يتم تجاهله عمداً لاعتبارات داخلية وليس لاعتبارات تتعلق بالأمن العالمى أو الإقليمى. وتثير المبررات الأوروبية فى عدم تسلم هؤلاء الإرهابيين الكثير من الاستياء، إذ تفضل دول كفرنسا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا أن تتم محاكمتهم فى العراق وسوريا وليس فى بلدانهم الأم، ويبدو تبرير عدم وجود ملفات قضائية لهؤلاء الإرهابيين سخيفاً ومثيراً للسخرية إلى حد كبير، وكأن قيام هؤلاء بقتل الآخرين فى بلدان بعيدة وتخريب مجتمعات أخرى أمر يخرج عن نطاق المحاسبة ويمكن السماح فيه، وكأنها دعوة لأى أوروبى أن يكون إرهابياً بلا محاسبة.