التجليات السياسية للإلحاد سائدة على محورى التاريخ والجغرافيا الإسلامية، فى مقابل ظهور محدود للتجلى العقلانى المرتبط بالاحتكام إلى العقل والارتكان إلى ماديات العلم وعدم الالتفات إلى الغيبيات وما يرتبط بها من معتقدات دينية.
وإذا كنت تقرأ فى صفحات التراث توظيفاً لتهمة الإلحاد تستهدف تشويه الخصوم السياسيين دون أن يكون لها أية علاقة بمسألة الدين أو الإيمان، لأن الله تعالى هو وحده المحيط بقلوب البشر والأعلم بمنسوب إيمانهم، وهو حكم عدل بينهم، فبإمكانك أن تظفر بتجلًّ جديد للعبة الإلحاد اتخذ هذه المرة وجها علمياً عقلانياً، ربط بين حالة التخلف التى يعيشها المسلمون وإيمانهم الدينى، ورأى فى نمط التدين سبباً من أسباب التخلف.
خلال فترة التشوق إلى النهضة والتخلص من أغلال التخلف فى مصر ظهرت بعض الأصوات الداعية بشكل صريح إلى الإلحاد. كان أكثرها ارتفاعاً صوت الكاتب الشهير «إسماعيل أدهم»، الذى قضى سنى طفولته فى الأستانة بتركيا ثم انتقل مع أبيه إلى مصر، وسافر للحصول على درجة الدكتوراه من إحدى جامعات موسكو، ثم عاد من جديد إلى مصر ليبشر بأفكاره الجديدة الداعية إلى الإلحاد ونبذ العقائد. ألّف إسماعيل أدهم رسالة (كتيباً صغيراً) اختار لها عنواناً استفهامياً جريئاً: «لماذا أنا ملحد؟». يشرح الكاتب فيها رحلته مع الدين فى طفولته، وكيف أن أباه كان يقهره على أداء العبادات الإسلامية، ويأطره أطراً على حفظ القرآن، وكانت النتيجة أن انصرف «أدهم» عن كل هذا وشغف بدراسة العلم ونظرياته وآمن بنظرية التطور الطبيعى لـ«داروين». وكانت النتيجة كما يقول «أدهم»: «وكانت نتيجة هذه الحياة أنى خرجت عن الأديان وتخليت عن كل المعتقدات وآمنت بالعلم وحده وبالمنطق العلمى. ولشد ما كانت دهشتى وعجبى أنى وجدت نفسى أسعد حالاً وأكثر اطمئناناً من حالتى السابقة التى كنت أغالب نفسى للاحتفاظ بمعتقد دينى».
ولو أنك تأملت التعريف الذى تبناه إسماعيل أدهم لتحديد مفهوم الإلحاد فسوف تستشعر أن ما أعلنه من ترك للعقائد الدينية وتمسك نهائى بالعلم والمنطق العلمى عبّر عن نوع من الاحتجاج على الواقع المتخلف الذى يعيش فيه المسلمون. يرى «أدهم» أن الإلحاد يعنى الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه الكون فى ذاته، وأن ثمة لا شىء وراء هذا العالم. إنه نفى كامل للإيمان بالغيبيات التى صرفت غالبية المسلمين عن البحث عن الأسباب العلمية للمشكلات، وتسخير المعرفة فى تطوير الواقع وتغيير صورته، والارتكان إلى التفكير المنطقى العقلانى فى إدارة أمور حياتهم. مشكلة كثير من المسلمين أنهم يتمحكون بالسماء فى مواجهة كل أحداث الأرض، ولا يرون فى العقل أكثر من زائدة دودية قد يؤدى تشغيلها إلى الإضرار بإيمان الفرد والجماعة. ومشكلة الراحل إسماعيل أدهم وغيره ممن آمنوا بالعلم ونبذ الأديان أنهم حكموا على الإسلام كعقيدة من ممارسات معتنقيه. ولست بحاجة إلى التأكيد على أن النص القرآنى يجعل من العقل مركزاً للحياة. بإمكانك العودة فى هذا السياق إلى كتاب عباس العقاد «التفكير فريضة إسلامية».
الإيمان المطلق بالعلم والمنطق العلمى هو الوجه الآخر للإيمان المفرط بالخرافة ورد كل أمر من أمور الحياة إلى ما وراء الحياة. والوجهان شاهدان على حالة الاعتلال التى أصابت المجتمعات المسلمة التى وقعت بين مطرقة الاحتجاج السلبى على التخلف دون اجتهاد فى توعية من يعانون منه، وسندان الاستسلام الكامل لحالة الرداءة والانسجام مع القبح.