أمريكا تبحث عن طريق.. إنها تختبر كلّ الطرق من أجل الوصول إلى الطريق. فى طريق البحث أتى الرئيس بوش الابن الذى جاء فى إطار توريث سياسى تامّ، حيث لم يكن يمثل الرئيس الجديد أىّ شىء سوى أنّه ابن الرئيس الأسبق.
وفى طريق البحث أيضاً جاء الرئيس باراك أوباما، أول رئيس غير أبيض فى تاريخ أمريكا، ولد لمهاجر مسلم من أفريقيا ثم صار رئيساً للدولة الأقوى فى العالم.
وفى طريق البحث -أيضاً- حاولت السيدة هيلارى كلينتون أن تكون أول امرأة «رئيسة» للولايات المتحدة. وفى طريق البحث -كذلك- جاء الرئيس دونالد ترامب ممثلاً للأمريكيين الكلاسيكيين.. لربّما عادتْ أمريكا إلى حيث كانت -أمريكا البيضاء- قبل أن تصبح تلك الأمة المتعددة المتنوعة، بالغة الثراء.
وفى البحث -الآن- جاء إعلان السيناتور «بيرنى ساندرز» الترشُّح لسباق الرئاسة الأمريكية كأول يهودى يمكن أن يكون رئيساً للولايات المتحدة. ربما يكون هذا التقلُّب الحاد، هو جوهر النظام السياسى الأمريكى.. التجارب بذاتها هى الأصل وليست الاستثناء. والتقلُّب بذاته هو الغاية، هو دلالة حيويّة لا دالة ارتباك.
لكن ربما يتم النظر إلى ذلك من الجانب الآخر.. إنها التجارب التى تهدف إلى طريق طويل، وهى الاختبارات التى تحاول ضبط المسار لحقبةٍ ممتدّة.
أياً ما كان الأمر فإن واحدة من المغامرات الفكرية يقودها الآن المرشح الديمقراطى بيرنى ساندرز.. ذلك السيناتور الذى يقف ضدّ واقع الديمقراطية الأمريكية وينادى بإصلاح الديمقراطية ذاتها.
إنه يريد تحرير الانتخابات من سطوة المال، كما يريد تحرير الشعب من سطوة الأقلية الأوليجاركية الغنية التى باتت تملك وتحكم، فى آن.
ينادى بيرنى ساندرز بحتمية انطلاق «ثورة سياسية فى أمريكا».. وهى ثورة تمضى إلى جهة اليسار، جهة الاشتراكية الديمقراطية القائمة فى شمال أوروبا، بعيداً عن دعاة العولمة والرأسمالية المتطرفة.
خاض «ساندرز» الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطى لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016. انهزم «ساندرز»، الذى حصل على (13) مليون صوت، وسانَد هيلارى كلينتون التى انهزمت هى الأخرى. لكن «ساندرز» -خلافاً للمعتاد- لم يغادر الساحة بعد الخسارة، أو يقرِّر الانتظار إلى حيث الانتخابات التالية. لكنه بدأ فى العمل الجماهيرى والمؤسسى منذ الهزيمة، أسس حركةً، وألَّف كتاباً، وطوّر منهجاً، وقرر أن يكون برنامجه مقدمةً لثورة سياسية فى البلاد.
إن بيرنى ساندرز هو أمريكى بارز، لكنه وُلد لأب أوروبى جاء إلى أمريكا من بولندا، وهو شديد الاحترام للكاثوليكية ولرسالة البابا فرانسيس.. لكنه يهودى الديانة من أبويْن يهودييْن.. ولكنه يقول إنه غير مؤمن.. ثم إنه أحد ألمع نجوم الحزب الديمقراطى.. لكنه يصف نفسه بأنه اشتراكى ديمقراطى.
هو، إذن، اليهودى المسيحى اللادينى.. ذلك السياسى الذى يؤيد الرئيس مادورو فى فنزويلا، ويرفض اعتراف الرئيس ترامب بزعيم المعارضة «جوايدو» رئيساً للبلاد. وهو أيضاً ذلك السياسى الذى زار إسرائيل، وتطوّع ذات يوم للعمل فى أحد الكيبوتزات.. ولكنّه المرشح الوحيد الذى لم يذهب إلى مقر اللوبى الصهيونى ليلقى كلمة، وهو أيضاً من انتقد إسرائيل ودافع عن ضحايا فلسطين، وفى حملته السابقة وُجدت لافتات فلسطينية رأتها إسرائيل معاديةً لها.
هو أيضاً السياسى المناهض لظاهرة الاحتباس الحرارى، والمؤيد للحوار مع إيران.. وهو كذلك من يدعو إلى جعل التعليم الجامعى بالمجان، وتعميم الرعاية الصحية للجميع، ورفض قوانين التنصّت على المواطنين الأمريكيين ومراقبة الحريّات.
أن يدعو مرشح رئاسى فى أمريكا إلى مجانية التعليم الجامعى، وليس مجرد منح قروض مُيسرة للطلاب، وأن يدعو كذلك إلى أن تكون الصحة للجميع، فإنه لا يمكن اعتبار ذلك مجرّد برنامج انتخابى.. إنه يمثِّل تحولاً أساسياً فى الفكر السياسى الأمريكى.
إن واشنطن الجديدة تحتاج إلى متابعة قوية.. إذا فاز الرئيس ترامب -الذى ترشَّح لجائزة نوبل للسلام- برئاسة ثانية، فإن الولايات المتحدة قد تشهد المزيد من التغيير.. وإذا وصل مرشح مثل بيرنى ساندرز إلى البيت الأبيض، لربما أصبحنا إزاء ما هو أكثر من التغيير.
ليست كل أفكار بيرنى ساندرز جيدة، كما أنها ليست واقعية بالضرورة.. ولربما فشل فى أن يحظى بترشيح الحزب الديمقراطى.. ذلك أن فرص فوز الرئيس ترامب بولاية ثانية لا تزال قوية. لكن الأفكار الاشتراكية التى يطرحها تمثل جزءاً من تحولات العقل السياسى الأمريكى.. إنها -بالتأكيد- جزء من أمريكا الجديدة.