فأما الخليفة المعتضد فهو العباس بن الموفق طلحة، نجل شقيق الخليفة المعتمد على الله، الملقب بالمعتضد بالله، والذى توفى عام 902 ميلادية بعد تسع سنوات وتسعة أشهر أمضاها خليفة للمسلمين، وهو الذى تزوج «قطر الندى» ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون. وأما نديمه فهو عبدالله بن حمدون، الساخر المثقف خفيف الظل سريع البديهة. يقول المؤرخون إن الخليفة المعتضد كان حازماً مع قواده شديد الوطأة عليهم، وهو الذى نجح فى إنهاء نفوذ الأتراك داخل الدولة العباسية، ورغم قسوته على قواده كان عادلاً مع رعيته رحيماً بهم، وكان لاستقرار الدولة فى عهده نتائج إيجابية على الوضع الاقتصادى، فتعافت الدولة واستردت مكانتها.
المهم، الخليفة المعتضد كان كثيراً ما يتباسط مع نديمه عبدالله بن حمدون، وفى ذات ليلة قال النديم عبدالله بن حمدون للخليفة المعتضد: «إلام أُضحكك ولا تضحكنى؟».
فقال الخليفة: خذ، وأعطاه ديناراً.
فقال ابن حمدون: خليفة يجيز نديمه بدينار واحد! (يعنى الخليفة بجلالة قدره ويعطينى ديناراً).
فقال الخليفة: لا أجد لك من بيت المال حقاً أكثر من هذا، ولكنى أحتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار. وأضاف: إذا كان غد وجاء القاسم بن عبيد الله (وهو وزير الخليفة وكان من الأثرياء) أسارُّك حين تقع عينى عليه سراراً طويلاً (يعنى أكلمك كأننى أخبرك بسر)، وألتفت إليه كالمغضب، وانظر أنت إليه فى خلال ذلك نظر المشفق.
ويواصل الخليفة حيلته لنديمه قائلاً: فإذا انقطع السرار فاخرج ولا تبرح الدهليز حتى يخرج، فإذا خرج خاطبك بجميل وسألك عن حالك، فاشكُ الفقر والحاجة وخذ ما يعطى، فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى، فحدّثه بالحديث كله وإياك أن تكذبه.
وفى اليوم التالى جاء الوزير القاسم، وحين رآه المعتضد دارت القصة على النحو الذى أراده الخليفة. وبعدها خرج النديم ابن حمدون فإذا بالوزير يقول له: ما هذا الجفاء؟ ما تجيئنى ولا تسألنى حاجة، (يعنى ببساطة: «ليه يا راجل مش بتسأل عنى وتودنى ولو محتاج حاجة عنيا ليك»).
ويواصل بن حمدون قص الرواية، كما وردت فى كتاب «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادى، قائلاً: فاعتذرت إليه، فقال: ما تقنعنى إلا أن تزورنى اليوم. ومضيت معه وجعل يسألنى عن حالى وأخبارى وأشكو له الدَّين والبنات فيتوجع ويقول: مالى لك ولو عرّفتنى لعاونتك على إزالة هذا كله عنك. ويواصل ابن حمدون قائلاً: وبلغنا داره وجعل يحادثنى ويبسطنى، وقُدمت إلىّ الفاكهة فجعل يلقمنى بيده، ثم وقّع لى بثلاثة آلاف دينار فأخذتها، وأحضرنى ثياباً وطيباً، وكانت بين يدىّ صينية فضة وقدح بللور، فأمر بحملهما إلى دارى وقال: هذا للبنات.
فلما انفرط المجلس قال لى: يا أبا محمد، أنت عالم بحقوق أبى عليك ومودتى لك.
فقلت: أنا خادم الوزير.
فقال: أريد أن أسألك عن شىء، وتحلف أنك تصدقنى عنه.
فقلت: السمع والطاعة.
قال: بأى شىء سارّك الخليفة اليوم فى أمرى؟
فأخبرته بكل ما جرى، وشكرته وانصرفت!
انتهت القصة، وحصل النديم على ما يريد لا لشىء سوى أن الوزير خشى أن يكون الخليفة يفكر فى اتخاذ قرار ضده لأنه بالتأكيد على «راسه بطحة»، وما أكثر أولئك الذين على رؤوسهم بطحات. هذه القصة، وإن اختلفت تفاصيلها وتغيرت شخوصها، متكررة بمضمونها ودلالاتها العابرة للزمان والمكان. ومن لا يصدّقنى عليه أن يجرب مع أى صاحب سلطة ومع من يسعون لكسب رضاه، لا لمصلحة عامة ولكن للحفاظ على مصالحهم الخاصة، وهم لا يعرفون أن «المعتضد بالله» يعرفهم جيداً ويعرف أن كروشهم إن امتلأت وحساباتهم فى البنوك إن تضخمت فللناس نصيب فيما يملكون وسيحصلون عليه عاجلاً أو آجلاً.