عندما تلازمنى ولو للحظات قصيرة أراها ضحكة جميلة وزهرة ربيعية نضرة ويمامة رمادية، سجعها ساحر ناعس لا يفهمه إلا من دخل قلوبهم السلام وسكنه واستوطن فيه ومنحه جنسيته، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إننى ألاحظ تغير الوجوه أمامى كلها يكسوها جمال أخاذ يسبح بحمد الله وعطاياه، وتتبدل الموسيقى وتصبح رومانسية راقصة وتتحول جميع الثياب إلى ما يشبه رداء الأميرات والملكات، ناعمة الألوان والأشكال، غنية مثيرة للإعجاب، وحتى الطعام أشعر أن مذاقه غير المعتاد، فالفاكهة حلاوتها وكأنها بشاير جميع الأصناف، حتى تلك التى لم يأت موعدها بعد، والخضراوات لها طراوة ومذاق الماء العذب وتمنح الفم ارتواء غريباً، والحلوى لا تفسد المزاج بل تمنحنا طعماً متوازناً وقدرة على التهام المزيد دون أى ضيق، وأتعجب هل تغير الفرحة ملامح الجميع أمامى وأسماءهم ورائحة عطورهم ودقات قلوبهم ومعانى كلماتهم وإيماءاتهم وتلميحاتهم ولمساتهم وسلامهم وأصواتهم، وتمسح دموعهم وتلون نجوم السماء وتزيد بريقها وتطيل أعمارها، فلا تختفى سريعاً من السماء وتدمج أصوات الطيور جميعها فى سيمفونية، فالسجع مع الهديل مع الزقزقة والشدو والنقنقة والعندلة والهدهدة والصفير والمزمار، فأشعر كأننى فى أعرق وأرقى دار للأوبرا، أستمع فيها لقطعة موسيقية حية من أرقى المخلوقات من العازفين الطبيعيين أصحاب الأجنحة الملائكية والألوان المنسجمة والأجساد الدقيقة المتناسقة، التى تحمل رائحة الجنة، والذين تعلموا النوتة الموسيقية والإبداع والعزف من السماء، ولا يتوقف الحال فى تلك اللحظة على ذلك فقط بل إن جميع أحلامى تتحقق فيها ويدور شريطها السينمائى أمام عينىّ وتستدعيه ذاكرتى بالحنين والجمال والفرح والزهو والفخر، وتغرقنى مشاعر الاشتياق لكل حلم بعد الآخر، وكأننى أطوف العالم كله وسط سحابة رمادية زهرية ناعمة تحاول إرضائى ومسح آثار رحلة السنين عن ملامحى وجسدى، فأعود للبداية من جديد بمشاعر خضراء منتعشة، وأشعر كأن هندسة حياتى وإيقاع أيامى يتغيران بسرعة وأننى أملك آمالاً عريضة مبهرة فى ارتفاعها وحجم الطموحات بها والدعوات الصادقة بأن تتحقق.
عندما تصيبنى تلك التى أتحدث عنها (الفرحة) أشعر وكأن جميع الصور الفوتوغرافية التى أملكها تتغير ملامحها وتتبدل، وأن أصحابها يخرجون من الإطارات ليتحدثوا إلىّ ويشاركونى إياها ويحتفوا بها معى، وأن أعمارهم لا تتجاوز سن الشباب بأى حال، والنضارة تظهر عليهم حتى تلك الصور القديمة تتلون وتشبه تلك التى التقطت بأحدث تقنيات التصوير وتعطى لأصحابها تجسيداً كاملاً وحياة وحركة طبيعية لينة وضوءاً نهارياً ليوم مشمس سماؤه بلا غيوم، وأشعر كأن الفرحة التى تغمرنى طيبة القلب ولن تخذلنا أبداً ولن تخوننى وتختفى، وأعود للألم فقد علمتنى جدتى فى ذلك الزمن البعيد أنه لا أمان للأفراح وأنه يجب الحرص فى التعامل معها، وأنها ثرثارة تحاول أن تخفى ملامحها ونياتها بصوت عال وكلمات تشغلنا عن كل شىء وكل شخص قريب أو بعيد لتحتل المكان والزمان، وتوهمنا أنها لن تتأجل ولا بد أن نعيشها بسرعة قبل أن تختفى منا وتدخل محارتها الكبيرة، لتسحبها موجة البحر المسائية بصوتها الهادر وتقذف بها للأعماق لتنتظر صاحب الفرحة الجديد، الذى يخرجها من كل هذه المخابئ السرية ليمسك بها وتصحبه ولو لحظات تعادل العمر كله، وتدور به تلك الدورة التى حكيت لكم عنها، من أجل كل ما سبق وحتى يشعر كل واحد منا أنه بطل تلك الرواية الرومانسية الناعمة وأنه صاحب فكرتها وصانع حبكتها الدرامية وراسم غلافها ومانح إهدائها لأحبته، وأنه موجود بين كل الصفحات ولا يمكن التخلى عنه حتى الصفحة الأخيرة، التى تحمل اسم وتاريخ إيداع الرواية وسط صفوف الكتب وبين أحضان القراء فى ليالى الونس بالكلمات أدعوكم أن تمسكوا بها بأيديكم وتتشبثوا بها، لأنها وحدها هى التى يمكنها أن تغير ملامحكم من جديد.