جاءتنى «عالية» ابنتى بعد يومها الدراسى سعيدة تضحك، مكررة جملة: «أنا حرة بالفرنسية»: «Je suis libre»، وتزامناً مع أعياد المرأة واحتفالاً بحريتها وتحققها واستدعاءً لروح مقالاتى العصماء بشأن المرأة، حضرتنى روح أديبنا العظيم إحسان عبدالقدوس ورائعته (أنا حرة) فاحتضنتها بحنوٍ وفخر: «ليه يا لبنى، أقصد يا عالية، ليه بتقولى إنك أصبحتى حرة»!
قالت: «اليوم تحررت من مشكلة كبيرة، لست مضطرة بعد اليوم إلى أن أصاحب أحداً أو أخاصم الآخر، وسوف أختار ما يروق لى»، بادلتها الفرحة طالبةً منها التوضيح، فشرحت لى بالتفصيل ما أسعدها لهذه الدرجة.
لقد جمعتهم مدام نسرين، مُدرسة الفصل، لتعطيهم هذه النصيحة المهمة، حينما كثرت شكاوى الطلاب من بعضهم البعض (هذه لا تريد اللعب معى، وهذا لا يريد الحديث لى، وهذه لا تريد الجلوس بقربى وهكذا.. وإلى آخره من شكاوى الصغار، والتى تتمحور بالأساس حول محاولتهم الضغط بعضهم على بعض، عن طريق الإحراج واستغلال اللياقة، فإن لم يأتِ الإحراج بنتيجة، كانت الشكوى للمُدرسة، مستخدمين سلطتها لإكمال عملية الضغط.
تنبهت مُدرسة الفصل لهذا المعنى، وبجملة واضحة قوية ومُعلمة أرست بها مبدأ مهماً ومحترماً، وهو الحرية الشخصية، موضحة لهم أن كل إنسان له الحرية التامة فى الاختيار مع مَن يلعب، ومَن يصادق، ومع مَن يقضى وقته، لأنها حرية شخصية، مع مراعاة أن جميعهم بالنهاية رفقاء درب وزملاء دراسة.
هكذا شرحت لى «عالية» الأمر، وبالرغم أننى بالمنزل أعيد المعنى مراراً وتكراراً، فإن تأثير مُدرستها عليها كان عظيماً، فتأثير المدرس إن كان صاحب رسالة وهدف يكون أسرع وأكثر إنجازاً.
فبالمدرسة هناك سلطة أخرى للمدرس تتسم بالجدية التامة والانتباه، مختلفة عن أجواء المنزل، وما بها من دلال وكر وفر ومراوغة.
المُدَرسة هنا خاطبت الفصل بالكامل محاولةً فك اشتباك يومى لا ينتهى، واستخدام موقف كان ممكناً له أن يمر دون انتباه فى إرساء وترسيخ معنى مهم ومبدأ محترم، سوف تقام عليه حياة هؤلاء التلاميذ ذوى الثمانية أو التسعة أعوام، إلى أن يكتمل تكوين شخصياتهم.
لا بد أن يتعلموا أن يقفوا عند حدود بعضهم البعض، وأن يحترموا اختيارات الآخرين وأنه لا شىء فى هذا العالم بالإجبار لا إحراجاً ولا عنوة أو قسوة، وأن الصداقة والعلاقات المقربة يجب أن تتم باختيار حر من أطرافها، وليس عنوة.
المبادئ والحقوق والواجبات يتعلمها أبناؤنا من مصادر عديدة: البيت والمدرسة والمجتمع، فإن صح مصدر المعلومة والتربية، صح الأطفال وارتقى الجيل وتأدب، كما أن الموازنة بين الصرامة والحنو شىء أساسى فى العملية التربوية، واقتراب المدرس من التلاميذ وصولاً لحل مشاكلهم العامة والخاصة شىء يحترم، ومن خلال هذا المقال أوجّه تحية كبيرة لمدرسى ومُدرسات بناتى، ولكل معلم محترم عرف دوره وأتقنه، فترك ذاك الأثر الطيب فى نفوس طلابه، والذى لا يمحى أبداً بل يبقى خالداً أبداً فى وجدان الطفل حتى يكبر وينضج ويكتمل تكوينه الفكرى والنفسى والمعرفى.
حقاً، إن حرياتنا الشخصية يجب أن تقف على أعتاب حريات الآخرين، لكن «عالية» بالغت يومها بشعورها بالحرية، حيث أنهت يومها التاريخى هذا بالتمرد على نوع العشاء وعلى موعد النوم، وعند لومها رددت بعنف بذات اللغة: «Je suis libre»