من رآه لأول مرة كأنه يعرفه منذ زمن، قال د. مهنا عن أول لقاء: ما زالت تلك اللحظة فى وجدانى وكأنى فى القرن الأول للهجرة، قلت لنفسى: إذا كان الشيخ كذلك فما بالنا بالصحابة والتابعين، أوصاه بصحبته العلامة الفرنسى رينيه جينو الذى أسلم وتسمى «عبدالواحد يحيى» وهو الذى منح د. عبدالحليم محمود الدكتوراه.
كان فقيهاً وداعية ومحدثاً وأديباً وصحفياً وولياً لله، لم يكن يتكلم ليسمعه الناس ولكن ليسمعه الحق سبحانه، لم يكن يدعو الناس إلى الله فحسب ولكن يدخلهم على الله، ولا يصف الطريق إلى الله بل يصحبك فيه، وهو لا يعرفك بالله دليلاً فحسب ولكنه يعرفك به شهوداً وعياناً، ولا يذكرك بالله فى الصلوات فحسب ولكنه يذكرك به فى الأنفاس واللحظات، ولا يحذرك من الشرك الجلى فحسب، ولكن أيضاً من الشرك الخفى.
يعد الرائد فى تجديد الصوفية، كان يردد: «ليس التصوف رقص الراقصين ولا طبل وزمر وتصخاب وتهييج ولا هو الذكر بألفاظ ساذجة محرفات، ولا صعق وتشنيج ولا مواكب رايات ملونة فيها لما يغضب الله ترويج، ولا هو العمة الكبرى، ولا سبح حول الرقاب، ولا التعطل أو دعوى الولاية أو صنع الخوارق أو كذب وتدبيج ووشاح وعكاز، ولا نسب إلى النبى من البهتان منسوج، ولا الإجازات تشرى بالدراهم أو وظائف صرفها بالزيف ممزوج ولا مظاهر آثام الموالد، أو تكاثر برجال خيرهم عوج، وليس بالفلسفات الهوج ينقلها كالببغاوات جهلاً»، وأوضح حقيقة بقوله: إن التصوف فقه الدين قاطبة، والفقه بالدين توثيق وتخريج، هو الكتاب وما جاء النبى به وكل شىء سوى هذا فممجوج، إن التصوف سر الله يمنحه من قد أحب، وحب الله تتويج، إن التصوف تحقيق الخلافة فى أرض الإله وإلا فهو تهريج.
وكان يرى أن التصوف ترميم بناء الباطن بعد أن تحطم من داخله، وكان يقول «من قال برفع التكليف عنه هو نصاب، ومن قال ليس عليه صلاة فهو كذاب أشر»، وهو أول من أدرك الخلل فى الفكر الوهابى وميله نحو التكفير وحذر منه وكان رفيقاً للشيخ حسن البنا فى التصوف فانفصل عنه بعد أن دخل فى السياسة.
وكان يرى أن توريث الإمامة فى الطرق الصوفية للابن الأكبر للشيخ خطأ لا يمت للإسلام بصلة، فالدين لا يكون بالوراثة لقول إبراهيم عليه السلام: قال «وَمِن ذُرِّيَّتِى» قال «لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ».
حينما كان الشيخ زكى إبراهيم رائداً للعشيرة المحمدية كان د. عبدالحليم محمود نائباً له فعين شيخاً للأزهر فقال له: لا يصح أن تكون شيخاً للأزهر ونائباً لى فأجابه: مشيختى للأزهر بقرار إدارى ونيابتى لكم فى العشيرة بفرمان ربانى «دعوى» وما كنت مستبدلاً الذى هو أدنى بالذى هو خير.
أرسل الشيخ زكى رسالة للملك فهد حملها اللواء/زكى بدر يذكره فيها بعدم بناء دورات مياه فى الحرم مكان منزل الرسول القديم فى مكة، فاستجاب الملك وحولها لمكتبة للحرم، وهو الذى أصلح بين الوزيرين زكى بدر وعبدالحليم موسى.
ومن أهم تلاميذه د. حسن عباس زكى، د. شيرين حلمى، د. على جمعة، ود. سيد طنطاوى، د. مهنا، ود. مصطفى محمود، ود. عمر هاشم، ود. مجدى حسين وزوجته وابنه د. إبراهيم، الذى قال إن الشيخ كان يعترف بالطب النفسى ويشجعه ويفصل كل من يفك الأعمال والسحر.
وكان يحب الستر على الناس ويعرف أنواع الناس ويوظفهم جميعاً بطريقته الفذة، وكان يكرر: مهمتنا تخريج القادة والمصلحين وليس حشد الجماهير، كان يرى التصوف رحمة للناس، وحوله إلى مؤسسة متكاملة.
سلمه السادات وشاح الرواد الأوائل، وسلمه مبارك وسام العلوم والفنون، ونوط الامتياز الذهبى.
نعى الشيخ نفسه وكأنه يستلهم بعضاً من ميراث النبوة، فأنشد قصيدة «حديث الرحيل» قبل موته بعشرة أيام: وداعاً أيها الدنيا وداعاً/إلى دار الخلود وإن عصيت/فليس الله ينفعه سجودى/وليس يضره أنى أبيت/فرحمته التى وسعت وعمت/ستشملنى حتى لو غويت.