الدروشة سمة أساسية من السمات التى ورثها العقل المصرى عن العصرين المملوكى ثم العثمانى. ولو أنك تصفحت ما كتبه «الجبرتى» عن أحوال الدراويش والمجاذيب فى مصر المملوكية ثم مصر العثمانية فسوف تلحظ كيف احتفى بسطاء المصريين وكبارهم بتلك الشخصيات. فما بين فترة وأخرى يتوقف المؤرخ الشهير أمام حالة أو أكثر فرضت نفسها على أجندة اهتمام الناس وقابلوا أفعالها الشاذة المفارقة للعقل بالتبجيل والاحترام. وقد اعتاد أمراء المماليك على الترحيب بظهور أى درويش أو مجذوب ومنحه المساحة كاملة للعبث بعقول البسطاء، لكنهم كانوا يسرعون إلى التدخل إذا زاد افتتان العوام به وتحلقوا حوله، فلم يكن مسموحاً لأى شخص بامتلاك أى مظهر من مظاهر القوة الشعبية حتى لا يشكل تهديداً لهم.
الوظيفة الأساسية للدراويش فى العصرين المملوكى والعثمانى تمثلت فى تكريس الدجل، وجعله جزءاً لا يتجزأ من حياة المصريين. ولعلك تتفق معى فى أن أشكال الدجل التى تتمحك زوراً بالدين تُعد الأكثر خطراً وأثراً وظهوراً بين عوام الناس، وأحياناً خواصهم. وقد مثّل اهتمام المماليك والعثمانيين بدعم وشحن «بطارية الدجل» لدى المصريين أداة أساسية من الأدوات التى وظفوها فى تجذير «الإسلام الشعبوى» القائم على تغييب العقل وإعلاء الخرافة. وكثيراً ما تدخلت مؤسسات الدولة المملوكية لحماية هذا النوع من الدجل، كما وقع فى واحدة من أشهر الفتن الشعبية التى شهدتها مصر عام 1712 ميلادية، أى قبل نحو 3 قرون من اليوم.
ملخص ما سرده «الجبرتى» حول هذه الفتنة يقول إن أحداثها اندلعت عندما واجه واعظ رومى وافد إلى مصر واحدة من أكثر الأفكار الشائعة لدى المصريين، والمتمثلة فى اطلاع أولياء الله الصالحين على اللوح المحفوظ. أنكر «الرومى» الفكرة واتهم أصحابها بالغلو فى وصف كرامات الأولياء بشكل يحرفهم عن الدين. الدعوة التى تبناها الواعظ كانت واضحة فى عقلانيتها وتوافقها مع الفهم القويم للدين، وهو أمر لم يرضَ عنه العوام فى مصر الذين تعودوا خلع معطف العقل قبل الدخول إلى أعتاب الأولياء. ثارث ثائرة العوام وطالبوا بإخراج الواعظ الرومى من مصر أو قطع لسانه إلى الأبد حتى يكف عن النيل من الأولياء، لجأوا إلى الأزهر فانحاز إلى موقفهم، وهو ما فعله أيضاً قاضى القضاة، خوفاً من خروج الأمر عن السيطرة. وانتهت القصة بقرار اتخذه باشا المماليك بنفى الواعظ إلى خارج البلاد درءاً للفتنة.
القصة التى حكاها الجبرتى ترتبط بقرون ثلاثة مضت، فهل يعنى ذلك تلاشى الفكرة فيما عاشته مصر من قرون تالية؟ لم يحدث ذلك بالطبع، فقد كان الشيخ الشعراوى، على سبيل المثال، من المروجين لنظرية أن الأولياء والعباد المصطفين قد يفوقون الأنبياء فى منزلتهم، كما فاق عبدالله «الخضر» نبيه «موسى»، والشيخ عبدالحليم محمود، شيخ الجامع الأزهر، كان من أشد المؤمنين بكرامات الحسن الشاذلى وولايته وبلوغه مراتب لم يبلغها الأنبياء، وصلت فى بعض تجلياتها إلى حد الحديث مع الله. إنه الموروث الثقافى المملوكى الذى أحياناً ما يجنح إلى تغييب العقل لحساب الخرافة، وجعل الولى فوق النبى، وإعلاء الخيال على حقائق الواقع.