الدجل والتبرّك بالأولياء وأحباب الله لم يكن حكراً على المصريين البسطاء فقط، بل امتد فى العصر المملوكى، وما بعده إلى الأمراء والولاة أنفسهم، وذلك فى الأوقات التى تدلهم فيها الظروف، وتواجه البلاد ملمات يشعر أمامها السلطان بقدر لا بأس به من الضعف، إن لم يكن العجز، فيجد نفسه مسوقاً إلى التماس الطمأنينة واستمداد القوة من مصانع الدجل الشعبى التى أنشأها على عينه.
يذكر «ابن إياس» أن السلطان قنصوه الغورى كان يتهرّب من مواجهة عسكر سليم شاه بالشام بكل ما أوتى من قوة، ولما فُرض عليه القتال «توجّه إلى مرج دابق، ووقف فى ميدان المعركة وحوله أربعون مصحفاً فى أكياس حرير أصفر، وعلى رؤوس جماعة أشراف، وفيها مصحف بخط الإمام عثمان بن عفان، رضى الله عنه.
وكان حول السلطان جماعة من الفقراء، وهم خليفة سيدى أحمد البدوى ومعه أعلام، والسادة الأشراف القادرية ومعهم أعلام خضر، وخليفة سيدى أحمد الرفاعى ومعه أعلام». جانب الدروشة كان واضحاً فى شخصية السلطان الغورى، فهو يتبرّك بالمصاحف، ويصطحب معه الأشراف والفقراء من أتباع الطرق الصوفية، قناعة منه بأن هذه الأدوات قادرة على المساعدة فى دفع الأذى عنه، ومستجلبة لرحمة الله، وغير ذلك من أفكار، لكنها لم تغنِ عنه فى ميدان القتال، فلقى جنوده هزيمة حاسمة أمام جند بنى عثمان، عندما وصل إلى السلطان خبرها أصابته جلطة مفاجئة فترنّح من فوق فرسه، وسقط صريعاً تحت حوافره، وذلك فى عام 1516.
مرّ على هذا الحدث ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف، ووصلنا إلى عام 1882، لنجد الثائر الكبير أحمد عرابى ينصب خيمته فى التل الكبير، استعداداً لمواجهة الغزاة الإنجليز، ويأتيه أصحاب الأعلام الصوفية والعميان وأصحاب العكاكيز، ليمنحوه بركتهم، ويروى له أحدهم حلماً عجيباً رآه فيه داخلاً حديقة غناء ليجد فى استقباله النبى محمد، صلى الله عليه وسلم. نشبت المعركة واجتهد جنود عرابى فى الصمود، لكن كسرتهم الخيانة والولس، وضعف ما فى يدهم من أسلحة، قياساً إلى السلاح الإنجليزى. كان «عرابى» يجلس فى خيمته عندما وصلت إليه أخبار الهزيمة، فانخرط كعادته فى ترديد مجموعة من الأوراد الصوفية، والعبث فى حبّات مسبحته. وبعد تحقّق الهزيمة وعودته إلى مصر نجده يسلم نفسه إلى القوات الإنجليزية، ويطلب معاملته كأسير حرب، فيقدم إلى محكمة عسكرية تقضى بتبعيده عن البلاد.
مر على هزيمة عرابى ودخول الإنجليز مصر ما يقرب من قرن من الزمان، ووصلنا إلى عام 1973، لنجد الرئيس السادات يستقبل الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر حينذاك الدكتور عبدالحليم محمود ليزف إليه بشرى، فقد رأى فى منامه أن النبى، صلى الله عليه وسلم، وعدداً من صحابته الكرام يعبرون القناة، ونصحه الشيخ بعد أن روى له الحلم باتخاذ قرار العبور وتحرير سيناء. لست أقول بالطبع إن أياً من السلطان الغورى أو أحمد عرابى أو أنور السادات كانوا بعيدين عن التّخطيط أو الأخذ بأسباب النصر الحقيقية، لكنهم فى كل الأحوال عاشوا أسرى للثقافة العامة التى أفرزتهم، وهى الثقافة التى تكرّست فى عصر المماليك، وتوارثها اللاحقون واحداً بعد واحد، حتى وصلنا إلى «حمامات مرسى» والحلم الشهير الذى كان الإخوان يؤكدون من خلاله أن «مرسى» سيجلس على عرش مصر سنين عدداً!.