المصدر الأول للتعليم فى العصر المملوكى كان المشايخ ومحل التعليم كان المسجد. والمُراجع لتاريخ هذه الفترة يجد أن أمراء وسلاطين المماليك حرصوا على إنشاء الكثير من المساجد، وكان يطلق على المسجد فى الأغلب: «مسجد ومدرسة فلان»، مثل «مسجد ومدرسة شيخون»، وبالإضافة إلى المساجد بالغ المماليك فى إنشاء ما يطلق عليه «الخوانق» لإيواء فقراء الصوفية وتيسير مكان يستطيعون فيه القيام بطقوسهم فى الذكر. بالغ الأمراء والسلاطين المماليك فى بناء المساجد «المدرسية» والخوانق.
وتمحور التعليم داخل هذه المراكز حول تلقين المذاهب الفقهية والأحاديث النبوية وترسيخ الفقه السُّنى فى عقول الدارسين، وتخليصهم من بقايا الفكر والفقه الشيعى الذى تجذَّر فى مصر خلال فترة الحكم الفاطمى، ولم يكن التعليم يخلو أيضاً من بعض المقررات الدنيوية كالطب والهندسة والكيمياء، لكن يبقى أن الأثر الأكبر كان للعلوم الدينية.
يذهب بعض المؤرخين إلى أن المدارس شهدت طفرة واضحة فى عددها وأساليب تمويلها خلال العصر المملوكى.
وهو كلام صحيح فى المجمل، لكن النمو الكمّى مسألة والقيمة الكيفية لهذه المدارس مسألة أخرى.
فقد تمحورت مناهج التعليم داخلها حول تلقين الدارسين أصول المذاهب الفقهية والأحاديث النبوية وعلوم اللغة والتفسير وغيرها، ولم يكن هناك اهتمام محسوس بالعلوم الدنيوية نظراً لتخلُّف مصر فيها.
ويعنى ذلك أن المدرسة مثلت أداة من أدوات السيطرة الناعمة على الثقافة العامة والشعبية.
فمن أهم الدروس التى رسَّختها المدارس فى العصر المملوكى مبدأ «الطاعة الشعبية للحكام» وأن معصيتهم معصية لله ورسوله. والتحالف بين المشايخ وأمراء المماليك أمر ثابت تاريخياً، وقد مثلت طائفة المشايخ النخبة المسئولة عن السيطرة على الشعب وتوجيهه، بل وتنويمه فى بعض الأحوال.
ولا يخفى عليك أيضاً الدور الذى لعبته «خوانق» الذكر الصوفى فى نشر ثقافة الدجل والخرافة بين المصريين، والاهتمام المبالغ به الذى أبداه العصر المملوكى بموالد الأولياء وأهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم. هذه الثقافة أذابت الحدود بين الوالى والولى فى الوجدان المصرى، فأصبحت دواوين مساجد الأولياء هى الساحة التى يشكو فيها المصريون من ظلم ومظالم الولاة، وعندما كان بعضهم يفكر فى إبداء أى نوع من الضجر من الوالى كان يواجَه بفتاوى العلماء التى تصفهم بالعصاة.
تجذَّرت هذه المعطيات فى الثقافة المصرية وواصلت العمل فى العقل والوجدان الشعبى حتى بعد انتهاء عصر المماليك.
ولو أنك راجعت أحداث الثورة العرابية فسوف تجد أن الإنجليز والفرنسيين تحركوا بقوة لدى الباب العالى من أجل استصدار منشور بعصيان عرابى ومعصيته للخليفة فى إسطنبول والجناب الخديوى فى مصر.
وعندما وصل هذا المنشور إلى معسكرات الجنود، حاول «عرابى» وقادة الثورة إخفاءه قدر المستطاع، لأنهم يعلمون تأثيره الداهم على نفوس المحيطين به، وعندما وصل خبر المنشور إلى الجنود أخذوا ينفضون من حوله فى مشهد شديد الدرامية، وإذا بشعبية «عرابى» تنهار أمام كلمة «العصيان».
وأمام الإحساس بالعجز وجد «عرابى» نفسه يمسك بمسبحته وينخرط ومن حوله فى حلقة ذكر يستنجدون فيها بأولياء الله الصالحين طالبين منهم المدد فى مواجهة ظلم مَن غلبوهم على أمرهم.
وهو مشهد لا يختلف كثيراً عن مشاهد معاصرة تجد فيها بسطاء المصريين يبعثون فيها برسائل «الشكوى» المتضرعة برفع المظالم عنهم إلى أولياء الله الصالحين.