الهزّة الكبرى للثقافة المملوكية فى مصر، جاءت على يد الحملة الفرنسية (1798 - 1801). الحقيقة الكبرى التى أدركها بعض المصريين حينها أن المماليك وسادتهم العثمانيين فى إسطنبول يمثلون حالة «فوضى» فى مواجهة «نظام».
ولو أنك تأمّلت الطريقة التى تحدث بها «الجبرتى» فى كتابه «مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس» عن خلفاء بنى عثمان، وكيف برّأهم من كل نقيصة، واعتبرهم فرسان المجد وحماة المسلمين، ثم فتّشت فى الطريقة التى يقف بها المؤرخ نفسه، منبهراً أمام النظم والأدوات التى اعتمد عليها الفرنسيون فى احتلال مصر، فسوف تلحَظ كيف هزّت الحملةُ نظرته إلى دولةِ الخلافةِ والأوضاع السّائدةِ فى مصرَ بعد عُقود طوال من الحُكم المملوكى. بدأت رحلة الحملة فى مصر بعبارة «هذه بلاد السلطان» التى قالها محمد كريم، رداً على قادة البحرية الإنجليزية الذين حذّروه من تحرّك حملة بحرية فرنسية إلى مصر، وانتهت بإثبات حقيقة عجز السلطان العثمانى، ورؤوس حملته من المماليك، عن حماية الدولة.
لا يتردّد «الجبرتى» فى الحديث عن النظام الدقيق الذى تحرّك به جنودُ الحملة فى مواجهة الفوضى العارمة التى حكمت مواجهة المماليك والأهالى لهم، ويسرد الكثير من المشاهدات التى ظهر فيها الدّجل كأداة من أدوات مواجهةِ عساكر الحملة، كذلك المشهد الذى يصف فيه الفقراء وأصحاب الرايات وأرباب الأشاير من الجماعات الصوفية، وهم يحتشدون فى مسيرة تحت قيادة عمر مكرم الذى كان قد صعد إلى القلعة وأحضر منها البيرق الكبير المسمى بـ«البيرق النبوى» فنشره من القلعةِ إلى أن وصل بالمسيرة إلى بولاق، والناس يهللون ويكبرون، ويكثرون من الصياح. ظهور «البيرق النبوى» فى مواجهة المدافع الفرنسية نهض كشاهد لا يخطئ على نمط التفكير الذى كرسه المماليك فى الوجدان الشعبى. وهيهات أن تتمكن الخرافة من مواجهة العلم.
هذه الطريقة فى التفكير المملوكى لم تختفِ من حياة المصريين، فلم يزل بعضهم يتحدّث عن انتصار أكتوبر الذى تحقّق بصيحة الله أكبر، وأن الملائكة كانت تحارب إلى جوار المصريين فى حرب 1973، وأن هزيمة 67 كان سببها الاستقواء بالروس الذين لا يعرفون الله. ولو أنّك استرجعت خطاب الإخوان على منصة رابعة فسوف تستذكر الأحاديث والأوهام والأحلام التى تعلقت بالرئيس المعزول محمد مرسى، ومنها الحلم الذى حكاه أحدهم بأنه رأى النبى فى المنام يدعو محمد مرسى إلى إمامة الصلاة وغير ذلك. وثمة أمثلة أخرى تستطيع أن تستدل عليها من تتبّع خطاب السلفيين.
ولو عُدنا إلى «الجبرتى»، لنستمع من جديد إلى وصفه احتفال بونابرت وجنود الحملة بعيد الثورة، وقيام الجمهورية الفرنسية فى كتابه «مظهر التقديس»، ويشرح ذلك بقوله: «وسبب ذلك أنهم لما قتلوا سلطانهم وظهرت بدعتهم التى ابتكروها، وخرجوا بها عن الطريق والملل جعلوا ذلك اليوم عيداً وتاريخاً». حتى هذه اللحظة كان «الجبرتى» يؤمن بحتمية الطاعة للسلطان وعدم عصيانه، ويعيب على الفرنسيين احتفالهم بهذه البدعة، لكنه بعد حين يعود ويتخلى عن هذا الرأى فى كتابه «عجائب الآثار»، ويصف اليوم بقوله: «وذلك اليوم كان ابتداء قيام الجمهور ببلادهم، فجعلوا ذلك اليوم عيداً وتاريخاً». لقد اهتز الرأى المملوكى الراسخ لدى الجبرتى، عندما بدأ فى ما بعد يفرق بين الخرافة الساذجة والعلم، واطلع على تجارب العلماء الفرنسيين فى المجمع العلمى، التى وصفها بـ«الأعاجيب». وذكر نصاً عن الفرنسيين فى المجمع العلمى أن لهم: «فيه أموراً وأحوالاً وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا».