لو أن أصحاب الدعوة اللاغية صدقوا مع أنفسهم، وتحروا فعلاً أسباب الصراع، لأدركوا أن النظر العرقى هو الذى يؤجج ويستوجد أسباب الصراع، ولواجهوا الحقيقة التى يشيحون عنها عمداً.. إن النظر العرقى وما يجره هو أساس موقف اليهود واليهودية من «الغير».. وهو الذى استوجد ويستوجد أسباب الصراع ويفرز عداوات هى التى سطرت على مدار التاريخ ما شجر من اختلافات وصراعات ومواجهات!
ومن الغريب اللافت أن اليهودية التى أفرزت هذا غير اليهودية التى يراها ويعتقدها المسلمون، أخذاً من قرآنهم المجيد الذى وإن انتقد كثيراً مواقف بنى إسرائيل من أنبيائهم وعنادهم معهـم وإعناتهـم إياهـم، إلاَّ أن ذات القرآن يدرج اليهودية فى ديانات التوحيد، ويحتفل بأنبيائها المرسلين، ولا يستثنى من إطراء أنبيائها أحداً، فلا يذكرهم إلاَّ فى موضع التكريم والتمجيد، بل وعلى نقيض ما ورد فى بعض أسفار العهد القديم من تعييب لبعضهم بلغ أحياناً حد التجريح والإهانة!!
وقد رأينا كيف أسرفت أسفار العهد القديم على «داود» وعلى «سليمان» عليهما السلام وعلى غيرهما!! بينما يطريهم القرآن ويدعو المسلمين إلى توقيرهم والإيمان بهم، مثلما يدعو إلى الإيمان بكل الرسالات السابقة على الرسالة المحمدية.. بل إن «العـداوة» التى بثها اليهود وأثاروها ضد دعوة الإسلام، وهجمات دعاة صهيون والصهيونية فى العصر الحديث، لم تمسح احترام المسلم للديانة اليهودية ولا للخلط بين اليهودية كدين، وبين الصهيونية كحراك عنصرى سياسى يقوم على الاستعلاء العنصرى ووعد مغلوط، ويتغيَّا التطهير العرقى والتدمير والتهجير والإحلال!!
من هو إذن الذى يعادى الآخر؟!!
دعونا نحتكم إلى كتبهم.. لنرى ماذا قال العهد القديم وقال التلمود اللذان يشكلان وجدان اليهود؟!
هذا تساؤل توجبه غربة اليهود عن العالم، ويفرضه حصاد الطواف ببعض الإشكاليات أو الخصوصيات اليهودية: إشكالية الهوية اليهودية، وتبنيها منطق الأعراق والسلالات، والنظر لليهود على أنهم شعب الله المميز المقدس المختار، بما استولده مما يسمى نقاء العرق والسلالة، وإشكالية العزلة أو الانعزال، وحكاية الوطن القومى، وما أدى ويؤدى إليه المنظور العرقى من وضع العالم كله فى دائرة «الأغيار»، ثم ما جرَّت وتجرُ إليه عقيدة التميز والقداسة من انعكاسات فرَّقت بين اليهودى وغير اليهودى فيما يقرره المجتمع اليهودى من حقوق أو ما يبيحه أو يحظره من معاملات..
هذه الإشكاليات وغيرها؛ التى وسمت علاقة اليهود بالعالم عبر التاريخ بخصوصيَّة لافتة أدت إلى صفحات مأساوية بات واجباً استقصاء مرجعيتها وأسبابها الحقيقية، وهو استقصاءٌ واجبٌ لن تطمسه أو تحجبه الاتهامات الكاذبة المغلوطة المشهرة بمعاداة السامية.
لم تفلح هذه الاتهامات المشهرة فى وقف كتابة مادة وسيناريو وإنتاج وإخراج وتصوير فيلم «آلام المسيح» الذى أقام الدنيا ولم يقعدها عن حادثة الصلب، وفى عقر الولايات المتحدة الأمريكية، معقل النفوذ اليهودى، ومركز الرعاية الخاصة لكل أحلام وأهداف ومرامى اليهودية الصهيونية والكيان الإسرائيلى الإحلالى الاستيطانى فى فلسطين! هذا الفيلم نسف فى ساعتين مدة عرضه جهوداً دؤوبة طويلة مضنية بذلت على مدار سنوات للطمس على مأساة الصلب، ووصلت إلى حد توريط الفاتيكان فى إعطاء صك براءة لم يقتنع به أحد، ولم يفلح بداهة فى اجتثاث ما حفلت به الأناجيل المسيحية عن المأساة والفاعلين، مثلما أخفق فى انتزاع الحدث من صفحة وجدان المسيحيين وغير المسيحيين.
هذا النظر العرقى هو الذى يشعر اليهود بأن المعاصرين منهم مسئولون عمَّا فعله الأجداد الغابرون، فيجتهدون اجتهاداً محكوماً عليه بالفشل لنفى وإنكار مسئولية هؤلاء الأجداد عن هذه المأساة، وهكذا نرى أن ذات الخصوصية العرقية هى هى «مصدر التهمة» و«مجلبة» البحث فى الوقت ذاته عن سبيل للخلاص منها.. وهنا تكمن قمة الدراما العجيبة!!!
لم يجد المسلمون الذين انحدروا من نسل كفار، قرشيين وغير قرشيين، أسلموا قبل أن يفارقوا أم لم يسلموا.. لم يجدوا بأنفسهم حاجة، لا اليوم ولا بالأمس، للبحث عن مخرج أو خلاص أو نفى أو إنكار لما فعله أجدادهم من إيذاء وكيد وتآمر وإساءة لنبى القرآن وحرب ظالمة جائرة عليه وعلى الإسلام والمسلمين، وصلت إلى حد محاولة قتل النبى عليه السلام.
سبب هذه الرؤية الإسلامية أن الإسلام لا ينظر إلى الأعراق والسلالات، ولا يورث الحاضرين آثام الغابرين، فلا تزر وازرة وزر أخرى، وكل امرئ بما كسب رهين، وكل إنسان ألزمه الله تعالى طائره فى عنقه، ولذلك انتقد القرآن أبا لهب عمَّ نبى الإسلام وتوعده بسوء العذاب، وانتقد قريشاً وكفارها، وكذلك فعلت مدونات الإسلام، حتى فى تناول الصفحات السلبية التى كانت لكبار الصحابة قبل أن يسلموا.
ومن هنا نرى أن الإشكالية اليهودية المطروحة فى شأن مأساة الصلب بغض النظر عن شخص المصلوب تردنا -شاء اليهود أم أبوا- إلى الإشكالية «العرقية» التى هى هى «مصدر الاتهام» الذى يستحضره اليهود بمنطقهم العرقى، وتعلَّة الدفاع الذى يكابدون مكابدة هائلة لاصطناعه لرد التهمة التى كان يمكنهم تجاوزها لو تخلصوا من المفهوم العرقى وما يجره عليهم من مصاعب وويلات!!!
قراءة واجبة فى الكتب اليهودية
بدلاً من التطاول الضرير على القرآن!
لا غناء إذن عن النظر والبحث والتفتيش عن منابع الخصوصيات اليهودية ومصادر موقفها من الأغيار.. واليهودية المعنية هنا، هى اليهودية كما يؤمن بها اليهود. اليهودية الواجب البحث فيها هى اليهودية المستمدة من الكتب اليهودية المقدسة كما هى فى عقيدة اليهود لا فى منظور سواهم، فغاية البحث والتفتيش هى الكشف عمَّا أسهم فى تشكيل صفحة الوجدان اليهودى وأدى إلى هذه الخصوصيَّات أو الإشكاليات، لا يشكل وجدان أهل أى دين إلاَّ مقدسات دينهم حسب اعتقادهم، فلا يشكل وجدان اليهود معارضات من عارضوا ومنهم يهود ومسيحيون نسبة التوراة (أسفار موسى) أو باقى أسفار العهد القديم إلى الله، أو تساؤلهم عمَّن كتبوا هذه الأسفار التى ظلت تكتب على مدار ما يزيد على ألف عام!! ولا يشكل وجدان اليهود معارضات القرآن ولا ما أورده من وقوع تحريفات بكتب اليهود أشار إليها القرآن الكريم، وإنما يتشكل وجدان اليهود بما يعتنقونه ويؤمنون به من واقع كتبهم المقدسة كما هى فى معتقدهم. لا يقصد هذا الاستقصاء إلى مجادلة اليهود أو غيرهم فى دينهم، ولا إلى منازعتهم فيه، وإنما هو يغوص ويفتش عن منابع مواقف الأديان ومنها اليهودية من الأغيار!
كتب اليهودية المقدسة، التى يعتنقها اليهود ودعنا هنا من البروتوكولات المنكورة أو المقول بأنها مزورة هى بصفة أساسية العهد القديم، والتلمود.. ويعود تعدد كتب اليهودية المقدسة إلى عدة أسباب من أهمها فكرة العقيدة الشفوية الحلولية التى تضفى القداسة على كتابات الحاخامات الدينية واجتهاداتهم، بل تكاد تعادل بين الوحى الإلهى (التوراة) والاجتهاد البشرى (التلمود) والكتاب المقدس، أو ما اصطلح على تسميته بالعهد القديم، يحتوى على أسفار موسى الخمسة، وإليها فى الغالب ينصرف مسمى «التوراة»، وهى أكثر أجزائه قداسة وتغطى الأحداث ما بين سنة1300 ق. م وسنة 200 ق. م تقريباً، وتتكون من أسفار: التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية، ثم تليها كتب الأنبياء وهى أكثر الأسفار توحيدية، وأخيراً كتب الحكم والأمثال والأناشيد.. هذا إلى جانب كتب الرؤى وغيرها التى ظهرت بعد تدوين العهد القديم، أو استبعدت من التدوين فيه، وصارت تُسمى الكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا)، أما «التلمود»، فقد بدأ تدوينه مع القرن السادس وصار كتاب اليهود الدينى الأول، ثم ظهرت مع القرن الثالث عشر كتب «القبالاه» وغيرها مما كوَّن فى مجموعه كياناً تراكمياً بات يشكل المرجعية الدينية اليهودية.