محمد الألفى من أبرز الشخصيات التى عرفها التاريخ المملوكى فى مصر. كان واحداً من مماليك مراد بك اشتراه نظير ألف إردب من القمح، ولذلك لقّب بـ«الألفى». يقول عنه «ميخائيل شاروبيم» صاحب كتاب «الكافى فى تاريخ مصر»: كان محارباً جسوراً وسياسياً ذكياً. مال إلى استخدام القوة بعنف فى الفترات الأولى من حياته، لكنه بمرور الوقت أصبح مولعاً بالنظر فى العلوم والفلكيات والهندسة واقتنى كتباً عظيمة فى العلوم والتاريخ. كاد «الألفى» أن يعتزل «لعبة القوة» خلال الفترة التى مال فيها إلى العلم والتعلم، فاعتكف فى داره واعتزل الأمراء والجند، فعاتبه من حوله فى ذلك فعاد إلى سيرته الأولى واستكثر من شراء المماليك وأنشأ قصره الكبير بالأزبكية. مثّل «الألفى» إلى جوار عثمان البرديسى أخطر عدوين -من الأمراء المصريين- للوالى الجديد محمد على، لكن الأول كان الأكثر خطراً بكل المقاييس.
خاض «الألفى» معارك طاحنة ضد محمد على، دوخ فيها جنود الوالى ومزقهم كل ممزق، وانتصر عليهم فى الجيزة ودمنهور ومناطق أخرى عديدة، وكادت الأحداث أن تمكنه من رقبة محمد على، عندما وصلت قوة عثمانية لفرض والٍ جديد على مصر (موسى باشا) بدلاً من الوالى الذى دفع به الشعب إلى سدة الحكم. ابتهج «الألفى» كثيراً لهذا الخبر، خصوصاً أنه كان صاحب دور مهم فى القرار العثمانى حين ألحَّ على أتباعه فى قصر الحكم بإسطنبول بضرورة إخراج محمد على ومن معه من الجنود الأرنؤوط من مصر، على أن يضمن المماليك استتباب الأوضاع فى مصر وحماية الحرمين الشريفين. أفلح محمد على فى إحباط المؤامرة بمساعدة الزعماء الشعبيين. كما استغل الوالى أيضاً الصراع الناشب بين فرق المماليك المنحازين لعثمان بك البرديسى من جهة والمتحزبين وراء الألفى من جهة أخرى، لكن ذلك لم يُلن من عزم «الألفى» على الاستمرار فى المواجهة.
الأقدار وحدها هى التى خلصت محمد على من أكبر ضروس المماليك «محمد بك الألفى» عندما نفذ سهم القضاء فى كبير المماليك، ومات فجأة بين جنوده، والغريب أن «البرديسى» مات هو الآخر بعد أيام من موت الألفى!. أرسل محمد على إلى القيادات الجديدة للأمراء يخبرهم برغبته فى الصلح بما يرتضونه من شروط. هدأت الأمور بين محمد على والمماليك بوفاة «الألفى». كان الوالى يدرك ذلك ويعلم مدى قوة خصمه إلى درجة أن ردد أمام بعض خواصه لما أتاه خبر موت الألفى: «الآن خلص لى حكم مصر».
يرسم بعض المؤرخين صورة شديدة الدرامية للحظة وفاة محمد الألفى يقولون فيها إنه وقف على ربوة ونظر إلى القاهرة وأخذ يناجيها قائلاً: «ويلك أيتها القاهرة انظرى إلى أولادك وهم حولك ممزقون كل ممزق. انظرى فقد استوطنك أجلاف الترك واليهود وأراذل الأرنؤوط وصاروا يقبضون خراجك ويحاربون أولادك ويقاتلون أبطالك ويقاومون فرسانك ويهدمون دورك ويسكنون قصورك». قال الراوى لهذه العبارة: «ولم يزل يردد هذا الكلام وأمثاله حتى تحرك به خلط دموى وتقيأ فى الحال دماً ونادى بأعلى صوته أواه قد قضى الأمر وخلصت مصر لمحمد على وما ثَم مَن ينازعه ويغالبه عليها».
بهذه الكلمات وضع المؤرخون خط النهاية لحياة أشرس خصم واجهه محمد على، وكاد يحبط أحلامه فى بناء إمبراطورية شرقية تكون مصر قاعدتها، وهى تشهد على واحد من ملامح الثقافة المملوكية التى تعودت على الاحتفاء بالأشخاص بعد وفاتهم، وعدم الالتفات إليهم وهم يتنفسون نسمات الحياة. وهى عادة صارت مصرية صميمة حتى يوم الناس هذا.