عندما وصل قطار الزمن بالمصريين إلى يوم الجمعة الموافق 1 مارس من عام 1811 كانت الأمور قد بدأت تلين وتدين لمحمد على، فقد تمكن من القضاء على الزعامة الشعبية بنفى عمر مكرم إلى دمياط، وشراء من لديه استعداد لبيع نفسه من المشايخ، وتولى آخرون إلى الظل، إيثاراً للسلامة. كما استطاع أن يؤمّن أوضاعه ضد الغدر العثمانى، بعد أن باءت كل محاولات الخليفة للتخلص منه بالفشل، أضف إلى ذلك تراجع الأطماع الإنجليزية فى مصر بعد هزيمة حملة فريزر عام 1807. خصم واحد كان يتحسب له محمد على بعد الشوط الطويل الذى قطعه فى التمكن والتمكين.. إنهم المماليك.
قرر محمد على التخلص من أمراء المماليك دفعة واحدة، ودبر جيداً للأمر، وكانت أول خطوة لتفعيل الهدف استدراج جمعهم إلى مكان واحد. انتهز الباشا فرصة خروج الحملة العسكرية الموجهة لتأديب الوهابيين فى الجزيرة العربية بقيادة ابنه «طوسون»، فدعا المماليك لحضور الحفل الذى أقامه بالقلعة بهذه المناسبة. كان الباشا سياسياً حكيماً، يعلم قدرة المماليك على الكر والفر، ولم يكن من السهل عليه الاستفراد بهم أميراً فأميراً، أو مجموعة فمجموعة، لذلك لجأ إلى هذه الحيلة التى جمعتهم كلهم فى صعيد واحد داخل مقر حكمه بالقلعة، وأعد العدة لتنفيذ المذبحة.
لم يتوقف الأمر على قتل من حضر حفل الدم بالقلعة. فقد تعقب جنود محمد على الفارين إلى بيوت وقصور كبار المماليك وأعملوا فيهم أدوات القتل. كان موقفاً عصيباً ومذهلاً عاشه الأمراء الذين تم اصطيادهم فى وليمة الدم الكبرى التى شهدتها القلعة. وهكذا الشعوب دائماً تميل إلى «الفرجة»، ولكن عندما يحتدم الأمر ويحصل التهديد، تهرول إلى الاختباء. وقد كشفت الأحداث أن فزع المصريين كان مبرراً، فقد اندفع الدلاة والجواقلية والألداشات إلى أزقة وحوارى المدينة، وسلبوا ونهبوا كل ما وصلت أيديهم إليه، بدأوا ببيوت المماليك، ثم انطلقوا إلى بيوت أولاد البلد، ولم يتوقف الجزء الثانى من الحفل الذى أقيم على شرف الأهالى، إلا حين نزل طوسون باشا نجل محمد على فكف الجنود عن السرقة والنهب.
أسفرت هذه المذبحة عن مقتل أكثر من ألف شخص. يقول «الجبرتى»: «قتل فى هذه الحادثة أكثر من ألف إنسان أمراء وأجناد وكشاف ومماليك، ثم صاروا يحملون رممهم على الأخشاب، ويرمونهم عند المغسل بالرميلة، ثم يرفعونهم ويلقون بهم فى حفر من الأرض فوق بعضهم البعض، لا يتميز الأمير عن غيره، وسلخوا عدة رؤوس من رؤوس العظماء، وألقوا الجماجم المسلوخة على الرمم فى تلك الحفر، فكانت هذه الكائنة من أشنع الحوادث التى لم يتفق مثلها». جانب الانتقام والتشفى كان واضحاً فى أداء جنود محمد على، ويبدو أن الوالى أراد أن يرسل للجميع رسالة حاسمة بأنه لن يسمح لأحد بمنازعته الحكم. وهى رسالة حاسمة وصلت للجميع -بمن فيهم أولاد البلد- وأكدت لهم أن من يخرج على الوالى سيكون مصيره القتل غير الرحيم. ويبدو أن مشهد رؤوس المماليك التى علقها الوالى على باب زويلة أقنعت المصريين بصدق الرسالة.