تتوالى الأحداث القاسية علينا جميعاً، المصبوغة بالدماء والآلام الموجعة للقلوب، والتى نحتاج فيها إلى من يربت علينا أو يحتضننا ويقبّل رؤوسنا، أو لمن يضعنا على أولى درجات النسيان والشفاء، أو من يمكن أن يكون السند والدعم والظهر القوى، أو مصل المناعة والقوة والمقاومة، ضد أى هجوم، أو حتى من يقدم وردة أو شمعة وسط ظلام وقسوة، وهنا تظهر معادن البشر صحيحة طبيعية، دون إضافات أو مواد تجميل أو عطور باريسية أو صبغات أو أزياء تنكرية ملائكية أو أصوات ساحبة، تجر من يسمعها للأعماق البعيدة، ثم تتركه دون سبب، ودون معين، ليغرق ويضيع من الألم ويتخبّط بين الأمواج والكائنات البحرية وورد النيل وبقايا البشر والنباتات والثياب البالية والأحذية الممزّقة وأجزاء السيارات المتهاوية المتهالكة الصدئة، ورائحة الماء العميق، تغلق رئتيه حتى الموت، وكأنها (النداهة) التى ضيّعت الكثيرين فى حكايات الجدات والأمهات، التى حذّرونا منها. وتؤلمنا الذكريات وأصحابها أو شركاؤنا فيها، حتى نتمنى لو لم نلتقِ بهم ذات يوم، ولو لم تجمعنا معهم صور تُسجّل تواريخ اللقاءات والاحتفالات والنجاحات وأول سلام وأول ابتسامة وأول نغزة قلب وأول صدة وأول جرح، وتوالى الأحزان، ليدور فى أذهاننا سؤال محيّر، وهو هل من الممكن أن نعدم الذكريات؟ وهل لدى بعض البشر القدرة على ادعاء أرقى المشاعر ليُصدقه الجميع ويفاجأون بعد ذلك بأنها كانت مزيفة..؟ وكيف تبدو صورة هؤلاء المدّعين لنبتعد عنهم، ولا نجعلهم يوقعون بأسمائهم فى أوراق ذكرياتنا؟ وهل هذا فى مقدرة البشر لنفعل أم أنه نوع من الخيال؟
وفى أوراق أطباء علم النفس، يؤكدون أن الذكريات ظاهرة بيولوجية ديناميكية تتميز بفاعلية مستمرة، ويؤدى التعرّض للمُنبهات من مشاعر سعيدة أو صدمات قوية إلى تكوينها وترتيبها فى العقل الباطن، حيث تنتقل من الذاكرة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة ويتوقف تقييم تلك المشاعر وأهميتها فى الذاكرة على تقدير الشخص لها وقوة انفعالاته وأهميتها، وإذا وصلت الذكريات لتلك الدرجة داخل الإنسان وأصبحت مرتبطة بعدة حواس، يقوم هرمون السعادة (الدوبامين) بتخزينها، ونقلها بين خلايا المخ، ليشعر الإنسان بالرضا والسعادة كلما مرت به، وللأسف أن الذكريات المؤلمة الموجعة التى تسبب ألماً شديداً تتساوى معها عند السكن والاستقرار فى العقل الباطن.
وبعيداً عن مرض العصر المسمى بـ«فيسبوك»، وإغلاق صفحاته وحذر الأشخاص غير المرغوب فى مشاركتهم حياتنا الخاصة جداً، أو دخول غرفنا، ولا أقول منازلنا الكبيرة، لأن ما يحدث بالفعل هو أنهم يقتحموننا بمساعدة هذا المرض اللعين، ولا يتوقف الأمر على الاقتحام، بل إنهم يعبثون بأفكارنا، وقد يوجهونها كما يشاءون، ويدخلونها دهاليز مظلمة وأماكن يُحظر التجول بها، ومناطق مزودة بلافتات تقول (خطر)، أو (ممنوع الدخول) أحدّثكم أحبائى عما لم يصل إليه أو يخترعه أحد علماء الإنترنت، ولا واحدة من شركات الاتصالات العالمية العملاقة التى تصول وتجول وسط عقولنا وذكرياتنا ومشاعرنا وتحتفظ لديها بتواريخ ميلادنا، وأول نظرة، وأول كلمة، وهمسات قلوبنا، لترسلها لنا سنوياً فى تقليد يوجع القلوب، ويزيد معاناتها، ويفتح الجراح التى نتصنع إغلاقها، ونوهم أنفسنا والمحيطين بِنَا وشهودها ومشاركينا إياها أنها أغلقت للأبد -أحدثكم عن إعدام الذكريات- ففى هذه المرحلة من الحياة التى يمكن أن نقول عنها (غريبة الأطوار والأحداث)، عنيفة التحولات والنقلات فاقدة الشرعية، عديمة المبادئ، ومزيفة المشاعر، لا بد أن نقوم بإعدام ما يؤلمنا أو يضعفنا أو يعيق حركة الصعود الطبيعى لنا ويعرقل مسيرتنا، لأن هناك كثيراً من الذكريات تأتى على هيئة وجع، كما أننا لا نملك رفاهية اختيار ما نرى منها، أو ما يسعدنا فقط، لنسمح له بالظهور فى أحلامنا ومداعبتها حيث يتساوى منها المبهج والمؤلم فى قوة مؤثراته والاحتفاظ به.
أدعوكم أصدقائى أن ننفض كل ما آلمنا وكل صورة تثير الندم، وأن نعيد معاً تنظيم دقات قلوبنا، ونهدئ من روعها ومن صوتها، وأن نضبط معدلات (الملح والسكر) بدمائنا، وأجسادنا لنهرب من أشهر أمراض العصر وأكثرها فتكاً بِنَا، ونعدو بعيداً عن وجع الذكريات، ونتركها جثة تترنّح فى الفضاء خلف ظهورنا، دون أى دمعة حزن أو شفقة أو ندم، فأنا أنادى بصدق بإعدام الذكريات.