لم يسعَ المستعمر الإنجليزى إلى تطوير العقل المصرى، بل على العكس من ذلك كان ممثلوه فى مصر شديدى التمسك بكل ما يغذى الثقافة المملوكية السائدة بين المصريين بما ترتكن عليه من جهل وخرافة وولع بالشللية وميل أصيل إلى التآمر وجعل طاعة السلطان من طاعة الله ورسوله. يسجل إسماعيل باشا صدقى فى مذكراته أن سياسة الإنجليز فى مصر كانت ترمى إلى محاربة التعليم، وخصوصاً التعليم العالى، لأنه ينير البصائر ويدفع المصريين إلى محاربة الاحتلال والتمسك بالحرية والاستقلال.
تأسست سياسة اللورد كرومر -المعتمد البريطانى فى مصر- على الترويج لـ«الكتاتيب» كوسيلة وأداة لتعليم المصريين، ونادى بأن الأمة بحاجة إلى التعليم الأوّلى أكثر من التعليم العالى، لذا فقد قاوم بشراسة فكرة إنشاء جامعة أهلية تيسّر للمصريين سبل التعليم العالى، وتكون مناهج وطرق التعليم فيها خلافاً للحال السائدة فى الأزهر. وقد وضعت الجماعة الوطنية هذا الأمر على رأس أولوياتها، ولست بحاجة إلى تذكيرك بالدور الذى لعبه مصطفى كامل فى هذا السياق والدعوات إلى التبرع لإنشاء الجامعة، والتى وصل صداها إلى الأميرة فاطمة إسماعيل التى تبرعت بمجوهراتها والكثير من المال للجامعة. وقد خلّد شاعر النيل حافظ إبراهيم مواجهة الجماعة الوطنية لسياسة اللورد كرومر فى نشر الكتاتيب فى قصيدة عصماء عرّض فيها بالمعتمد البريطانى قائلاً: «ذرَّ الكتاتيب منشيها بلا عدد.. ذرَّ الرماد فى عين الحاذق الأرب».
من ناحيته كان كرومر يرى أن من الصعوبة بمكان صناعة نماذج مصرية مماثلة لنتاج التعليم الإنجليزى بالنسبة للبريطانيين، وأنه حتى أفراد الطبقة العليا فى مصر يأخذون أسلوب الحياة الإنجليزية من فوق السطح دون تأثر حقيقى بقيمه. واعتبر المعتمد البريطانى أن الهدف الأساسى من التعليم يتمثل فى إنتاج موظفين مؤهلين للعمل فى دولاب الحكومة، وأن من الخطأ تخريج أعداد كبيرة من المتعلمين تفوق حاجة الحكومة إلى الموظفين. وفى هذا الإطار استُخدمت الرسوم الدراسية كأداة ضبط لعدد المتعلمين، إذ لم يعد التعليم فى استطاعة إلا من يملك ثمنه. وفى المقابل شجع كرومر المصريين على التعليم الفنى، واعتبر أن الكتاتيب هى الأداة المثلى للتعليم فى الريف المصرى.
منذ معرفة مصر للمدارس كان التعليم وسيلة، وليس هدفاً، لمن يمتلك زمام الأمور فى البلاد، كذلك استخدمه محمد على فى تجربته، وكذلك نظر إليه عباس وسعيد، ثم إسماعيل. هذه الطريقة فى التفكير من جانب الولاة والأمراء والمعتمدين البريطانيين تبدو طبيعية. السلطة الإنجليزية -شأنها شأن أى سلطة- كانت تراعى بُعدين وهى تخطط للتعليم فى مصر: أحدهما إدارى (إخراج الموظفين اللازمين لدواوين الحكومة)، والآخر أمنى (عدم توعية الشعب بشكل يؤدى إلى تثويره). وبإمكانك أن تجد تفاصيل وخلفيات السياسة التى اتبعها اللورد كرومر فى كتاب «اللورد كرومر» الذى كتبه «روجر أوين» وترجمه الراحل العظيم الدكتور «رؤوف عباس».
فى المجمل نستطيع القول إن التعليم -على تدنِّى نسبته بين المصريين فى ذلك الوقت- مثّل أداة من الأدوات المهمة التى أخذت فى هز بعض قناعات العقل المصرى بالمفاهيم المملوكية، لكن هذه الهزة أصابت النخبة أكثر مما أصابت الجماهير العريضة. ومن عجب أن هذه النخبة ظلت على ولاء واضح -إلا فى فترات تاريخية استثنائية- لمجموعة الأسس التى استندت إليها رؤية كرومر للتعليم فى ربطه بالوظائف واحتياجات الحكومة والشكوى الدائمة من أعداد المتعلمين ومحاولة محاصرتها بالمصروفات العالية وتشجيع التعليم الفنى. والأخطر أنهم لم يلتفتوا، مع مرور الوقت، إلى تسرب آلية التعليم المملوكى (الحفظ والاسترجاع) الموروثة عن الكتاتيب إلى المدارس، بل والجامعات.