وُلدت فى هذا الحى الذى ينام فى حضن التاريخ، ويصحو حين ترسل الشمس أشعتها فتمنح مآذن مساجدها العتيقة ألقاً، وتزيدها مهابة، وتغمر سكان شوارعها الطيبين دفئاً، وتهبهم يوماً جديداً للعطاء. لذا فأنا لا تألفنى المدن الباردة. وحين قصدت -لأول مرة- بلاد الثلج المسكونة بالجنيات الشقراوات كان الصيف موعدى فلم أشعر بتلك الغربة المناخية.
فى تلك المرة، كانت الرحلة إلى بروكسل عاصمة بلجيكا التى يتربع الملك الخجول على عرشها، وكان الفصل ربيعاً منح سكان المدينة دفئاً لكنه لم يمنع الأمطار من الهطول، ومنحنى بهجة لكنها لم تحمنى من البرد الذى أحبه أحياناً.
فى الطريق إلى مطار القاهرة تصادفنى بنايات حى مصر الجديدة ذات الطراز البلجيكى، وألمح عن بعد قصر البارون إدوارد إمبان الثرى البلجيكى الذى عشق مصر وإليه يعود الفضل فى تصميم وتقسيم حى مصر الجديدة.
أهمس فى نفسى: هأنذا فى طريقى إلى المدينة التى صُممت تلك البنايات وفق طرازها المعمارى.
حملت تلك الفكرة فى رأسى وأنا أتجول فى شوارع بروكسل النظيفة، وألتقط صوراً لبناياتها الأنيقة.
أقمت ورفقاء الرحلة فى فندق بوسط المدينة حيث تنتشر محال الشيكولاتة البلجيكية مختلفة الشكل والمذاق، وعلى بعد أقل من كيلومتر كانت ساحة «جراند بالاس» التى تعج على مدار الساعة بالسائحين من كل شكل ولون وجهتى الأولى.. تجولت لنحو ساعتين فى الساحة والشوارع المحيطة التى تنتشر بها تماثيل مفكرى بلجيكا وكتابها.. لم تنجب بلجيكا كمفكرى إنجلترا أو فرنسا لكنها نجحت فى الاحتفاظ لنفسها بشخصية متفردة اكتسبتها بحكم تنوع اللغات التى يتحدث بها سكانها، فسكان بلجيكا موزعون لغوياً بين الهولندية التى يتحدث بها نحو تسعة وخمسين فى المائة من أبنائها الذين يتركزون فى شمال البلاد، والفرنسية التى يتحدث بها نحو أربعين بالمائة ويتركزون فى الجنوب، إضافة إلى مجموعة صغيرة تتحدث الألمانية ويتركزون فى شرق البلاد.. هذا التنوع اللغوى منح المجتمع البلجيكى تنوعاً ثقافياً زاد بالهجرات المتتالية على مدار العقود الماضية وظهرت أجيال جديدة أغلبهم من المغاربة والأتراك، ولقد ترك هذا التنوع آثاراً عميقة فى توجيه السياسة البلجيكية وأحدث شروخاً فى بنية المجتمع الداخلية لكن لهذا الحديث مجال آخر.
«إن كنت فى بروكسل فلتأكل كما يأكل أهل بروكسل»، ألقاها الدبلوماسى المصرى الشاب مصحوبة بابتسامة وهو يدعونى وزملاء آخرين لتناول العشاء فى أحد المطاعم البلجيكية وأنا لا أمتلك جرأة التجريب فى الطعام فشكرته وتركت قدمى تأخذنى متجولاً فى الشوارع المحيطة بالفندق بحثاً عن مطعم يلائم طبيعتى، وتلك مهمة ليست صعبة فى بلد مثل بروكسل يعج بالأجانب على مدار العام فهناك مطاعم مغربية وأخرى لبنانية وثالثة مصرية، والأكلات الهندية والإيرانية تحتفظ هى الأخرى لنفسها بموقع لا تخطئه العيون ورائحة تفوح فى المكان. فى مطعم لبنانى كانت وجبتى الأولى التى تناولتها على صوت جارة القمر فيما كانت أسرة خليجية فى طاولة خلفى تمنح الأجواء مزيداً من الألفة.
«طبعاً انتَ فرحان عشان جالك زبون من ولاد بلدك»، قالها النادل اللبنانى موجهاً حديثه لزميله المصرى وهو يشير نحوى، فرد بضحكة مصرية مجلجلة ووجه كلامه لى: «منورنا يا أستاذ».
كانت مشكلتى الأكبر هى فنجان القهوة الصباحى فهنا لا يقدمون القهوة على طريقتنا، وقد علمتنى كثرة الأسفار أن أستعيض بالإسبرسو عن قهوتى المفضلة وقد كان.
على مقهى مجاور للفندق كانت جلستى متابعاً بشغف محاورات الزبائن ووجوههم الباسمة وحركة المارة الهادئة فى هذا الشارع المتأنق.
كل من التقيتهم من سكان تلك المدينة الأصليين كانوا بشوشين وفى مرات التوهان فى شوارعها كانوا متعاونين يشرحون لى بابتسامة أقصر الطرق للوصول إلى مبتغاى وهم يحيوننى مرحبين. قال لى أحدهم: لا بد أن تتجول أكثر فى بلادنا فهى جميلة وبها مبانٍ تاريخية رائعة. وحين علم أننى مصرى أضاف: صحيح هى ليست كآثاركم الخالدة لكنها تستحق الزيارة بكل تأكيد.
أسعدتنى كلمات الرجل الذى أجبرتنا الأمطار الغزيرة على البقاء معاً تحت المظلة الممتدة أمام أحد المحال التجارية لنحو خمس دقائق قبل أن يودعنى قائلاً: أنا زرت مصر أكثر من مرة وسأكرر الزيارة فى إجازة عيد الميلاد المقبل، أتمنى أن نلتقى هناك.
كان هذا الرجل أكثر رصانة من رجل آخر صادف زميلين كانا من بين رفقاء الرحلة إذ تهلل وجهه بعد أن علم أنهما مصريان وردد بصوت منغم: مصر بلد محمد صلاح. ثم ردد بصوت منغم: موووو صلاح.