فى لبنان يكثر الحديث الآن عن الفساد، والهدر، والإهمال، وسوء الإدارة.
وظلت السياسة فى لبنان تعبيراً عن تقسيم منافع وعمولات وسمسرات على حساب الطبقات الفقيرة المعدمة المهمشة إلا فى عهود نادرة وفى ظل رؤساء يندر تكرارهم فى التاريخ أمثال رياض الصلح، وفؤاد شهاب، وإلياس سركيس.
وظل الاقتصاد فى لبنان «اقتصاداً قَبَلياً» يقتسم فيه كل فخذ من القبيلة حصة من البيزنس والعطاءات والتلزيمات الحكومية، هذا له فى الكهرباء، وذاك فى الزراعة، وذاك فى العقارات، وصديقنا فى الكسارات، وحبيبنا فى السلاح، وشقيقنا فى زراعة الحشيشة، وهذا فى الجمارك، وذاك فى المطار، وهكذا تركة.
وحرفت لبنان معنى التنافسية إلى معنى تكسير عظام بين الساسة للحصول على المنافع بشكل غير مشروع والتربح من امتيازات وعقود عن طريق الفساد والتعامل مع جماهير الشعب الكادح بشكل «زبائنى»، أى إن المواطن ليس صاحب حق، ولكن مصدر ربح غير مشروع.
وفى الحرب الأهلية اللبنانية، التى استمرت 17 عاماً، ترددت أرقام غير موثقة عن أن حجم المال السياسى، الذى دخل من دول الخليج وصدام حسين ومعمر القذافى وإيران واستخبارات أمريكا وبريطانيا وفرنسا، قدر من 70 إلى 80 مليار دولار وصلت إلى جيوب ميليشيات الحرب وحساباتهم الشخصية خارج لبنان.
وتردد أيضاً أن النهب المستمر للاقتصاد والخدمات فى لبنان فى تلك الفترة السوداء الذى قام على عمولات السلاح، واستئجار الميليشيات، وإتاوات الحواجز الأمنية، وزراعة المخدرات وتهريبها، بلغ من 50 إلى 60 ملياراً.
وقيل لى إن دولة خليجية تعد دراسة مدققة لتعرف بالضبط أين أُنفقت مساعدات مالية مباشرة للبنان بلغت 110 مليارات دولار خلال الفترة من 1975 حتى تاريخنا هذا؟
واليوم، يتم الحديث عن ضائقة مالية شديدة تفرضها حالات المنطقة الإقليمية، والإهمال المتراكم تاريخياً، والاقتصاد اللبنانى المأزوم الذى يعتمد بالدرجة الأولى على «الانضباط المالى للبنك المركزى» وليس على حسن أداء الاقتصاد ذاته.
وتأتى تعهدات مؤتمر «سدر» بمنح لبنان مساعدات تنعش اقتصاده وتخفض التضخم وتخفض البطالة وتلبى احتياجاته الأساسية فى الخدمات من مياه وطاقة وطرق وبنية تحتية لتضع شروطاً منطقية، ولكنها اجتماعياً قاسية، لإحداث إصلاحات هيكلية، يجب أن تسبق -بالضرورة- منح الـ11٫5 مليار دولار.
هنا يأتى السؤال العظيم: مَن -كالعادة- سوف يدفع فاتورة هذا الإصلاح المنشود؟
لن يدفعها لوردات الحرب الذين لم تحاسبهم الدولة فى أى عهد من العهود، لم يُحاسَبوا بالقانون ولا بطريقة «الريتزكارلتون»، ولا بالتراضى ولا بالتبرع، ولا بدور إيجابى فى إنشاء مشروعات لإنعاش الاقتصاد.
لبنان يبحث عن 11٫5 مليار دولار، وتراكم الفساد فيه، والحديث عن أرصدة لبنانية موجودة فى الخارج لساسة ومسئولين ومغتربين تعدت الـ250 مليار دولار موجودة فى أوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا السوداء والإمارات.
وبدلاً من أن يدفع «القادر» على الحل فاتورة الإنقاذ، يدفعها -كالعادة- الذى يبحث عن سقف يؤويه، وتشغله فاتورة مدارس أطفاله، ويقلقه علاج أمه المريضة، ويقف فى طوابير السوبر ماركت بحثاً عن أرخص سعر للأجبان وأكثر لفة «خبز» بلدى مقبولة السعر.
هؤلاء مطلوب منهم أن يقتطعوا من لحومهم حتى يدفعوا فاتورة الكبار.
هؤلاء عليهم أن يُدفنوا أحياء فى كفن الوطن حتى يدخن أحدهم سيجاراً أو يفتح زجاجة شمبانيا بما يساوى دخل أسرة من 7 أشخاص فى شهر كامل.
إنه مثل معظم حالات العواصم العربية الكبرى، مجتمع الواحد فى المائة الذين يستهلكون 99٪ من الناتج والخدمات.
وكأن المرحلة شعارها: «عش أنتَ ولأذهب أنا إلى الجحيم».