المشهد خلال الأيام الأولى لثورة يوليو 1952 كان مثيراً للغاية. فقد بدا وكأنه مشهد من فيلم أو رواية تمكَّن فيها مجموعة من المغمورين العاديين من هز أركان دولة الكبار، لتنجح فيما فشل فيه عرابى ومصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس وعدلى يكن وإسماعيل صدقى وغيرهم من الكبار. ظهر محمد نجيب فى البداية وكأنه يدير المشهد، التفَّ حوله الناس، كان من وجهة نظرهم القائد الذى تمكَّن مع مجموعته من قلب الطاولة فوق رؤوس الكبار الذين بدوا منكفئين أمام مبنى القيادة العامة، لكن الجيل المعاصر لأحداث ثورة يوليو كان يتشوق إلى ما هو أبعد. بدا «نجيب» أباً طيباً أمام الناس، فى وقت يطمح فيه خيالهم إلى ما هو أكبر، كانت صورة البطل المنقذ المخلص هى التى تتجول فى عقل ووجدان جيل بأكمله، جيل احتفى بعض أفراده بالقاهر القادر «هتلر» الذى دوَّخ العالم وأذل أوروبا وتأمّل فيه البعض تحرير مصر من ربقة الاحتلال.
المشهد الذى كان يتابعه المصريون كان يرقى إلى مرتبة الإعجاز أو المعجزة. وكان يثير فى أذهانهم سؤالاً حول البطل الذى يقف وراء المعجزة. مؤكد أنه لا يتمثل فى هذا الأب الطيب الذى يدخن «البايب»، يقيناً أنه شخص آخر يمتلك سمات فارقة وقدرات خارقة، وهو يقبع بين أفراد هذه المجموعة. خلافاً لغيره من أعضاء مجلس قيادة الثورة كان جمال عبدالناصر يعيش فى سحابات نفس الحلم الذى كان يداعب وجدان الجماهير. فمنذ صباه وهو مغرم بتتبُّع سير الأبطال والمنقذين وفتوات الناس الغلابة. صورة «محسن» البطل الشاب الطامح إلى الحرية فى رواية «عودة الروح» كانت قابعة فى ذهنه، كان يجد فى نفسه بطلاً يبحث عن دور، تماماً مثل أبطال «برانديللو» فى مسرحيته الشهيرة «6 شخصيات تبحث عن مؤلف». ما كان يتردد فى ذلك الحين أن «عبدالناصر» كان على موعد مع الجماهير الباحثة عن منقذ أو مخلِّص، وقد بدا المشهد حينها كذلك، جموع بشرية من البسطاء يبحثون عن «فتوة عادل» يمتلك القوة والقدرة التى تمكنه من الوقوف فى وجه الأعيان.
فى سياق هذا المشهد بدأت علاقة المواطن المصرى بجهاز الحكم تأخذ منحى نفسياً شديد الإثارة، لم يعُد يبحث معه عن دولة قدر ما يبحث عن قائد، لم يعد يهمه فى شخص مَن يحكمه سوى أن يداعب حلم «المنقذ» أو «المخلِّص» الذى يتسكع فى مخيلته. وهو ذلك الشخص القادر على حل كل المشكلات بضربة واحدة من يده (يفوت ع الصحرا تخضر، يشقى خدود الناس تحمر). زعيم يخاطب الناس مباشرة دون حاجة إلى أحزاب أو قوى سياسية، إيقاعه منضبط على إيقاع الشعب، بإمكانه أن يُحرك الجماهير بإشارة من أصبعه. لم يعد يهم الناس ما يصيب مؤسسات الدولة من نَصَب أو وَصَب أو عَطب، فالزعيم موجود، وهو قادر على التدخل فى أى لحظة ليعدل المائل ويعيد الأمور إلى نصابها، وليس أدل على ذلك من مشهد المصريين وهم يهتفون باستمرار «عبدالناصر» بعد نكسة 1967. حلم المنقذ أو المخلِّص لم يغادر مخيلة المصريين حتى بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، بل ظلَّ قابعاً فى «النفس المصرية» على مدار عقود متتالية. يشهد على ذلك صور جمال عبدالناصر التى ترفع فى يد أجيال لم تعاصر «عبدالناصر» وهم يشكون أوجاعهم أو يطالبون بحل مشكلاتهم. إنه الحلم القديم المتجدد بـ«الزعيم المنقذ» و«القائد المخلص».