م الآخر| العشق غير الممنوع
في إلتفاتة غير مقصودة، تسمرت بعدها قدماي، وتشنج عنقي بعدما حطت عيناي على فتاة ممشوقة كنساء الفراعنة، ربما جاوزت العشرين من عمرها بقليل، أو تقف على أعتاب النصف الثاني منها، تحمل ملامحها السمراء الرقيقة والدقيقة الجينات الشرقية الأصيلة، والحضارة الضاربة في عمق التاريخ، وكأن هذه الملامح قد رُسمت بسنابل القمح اليوسفي، يعلو وجهها الذي يقترب من الاستدارة ابتسامة عذبة ورقيقة، خصلة شعر سوداء داكنة كالتربة البكر، غادرت محبسها الذي يميل لونه إلى صفرة الرمال السيناوية، وتدلت على جانب جبهتها، وكأن صاحبتها تركتها عمدًا لتراقص الهواء.
وعلى الرغم من كثرة العيون الطامعة التي تلاحقها، إلا أنها تقف في شموخ وإصرار وثقة، لم تنبس بكلمة واحدة ردًا على ملاحقات هؤلاء الطامعين، لم تعبأ بمن حولها، حتى أن الأشجار التي تقف بجوارها تبدو وكأنها تحالفت مع سكونها وكبرياءها.
صور لي خيالي لبضع دقائق، أنها فقدت الثقة في قدراتها، فتخيلت أن وجهها الباسم الذي يشع نورًا وبهاءً قد اعتلاه بعضًا من غبار الطامعين، وفي هذه الأثناء سمعت ضحكتها الساخرة تخترق عالمي، كالماء المندفع من سد أسوان، ليستقر في أحضان نهر النيل، فأدركت على الفور، حقيقة الإصرار المختبئ خلف ملامحها.
تقدم يا أستاذ، قالها رجل تجاوز الأربعين بقليل، فانتشلني بعنف من عالمي الذي رسمه خيالي، تقدمت خطوتين، فأصبحت في محاذاة تلك الفتاة، فضبطتني عيناها السوداوين وأنا أتأملها، كالسائح الذي يجوب الوديان ويتسلق الهضاب ويسلك الدروب التي تنطق بالتاريخ، فما كان منها إلا أن نحت نفسها في إباء وكبرياء وغيرت وجهتها عني، لم أيأس وقلت في نفسي حتمًا ستعود لأسرق من ملامحها نظرة أخيرة، أو أسترق من عالمها السمع، فنحيت نفسي قليلًا، ولكن دون جدوى فقد خسرت الزاوية الصحيحة للمشاهدة.
تقدم يا أستاذ، قالها نفس الرجل من جديد، تقدمت عدة خطوات كانت كافية، لأن أغادر وجه الفتاة تمامًا، وبعدها بقليل وجدت نفسي أمام اللجنة.. سلمت بطاقتي، أخذت ورقة التصويت، وقعت عليها وكأني وقعت على عقد ملكيتي للمملكة التي سبق أن سلبها مني الغزاة، غمست أصبعي في حبر وردي شعرت بعدها، وكأنني تسلمت صك ملكيتي لهذه المملكة.
غادرت اللجنة وتملأني النشوة والفخر، بعدما أتممت مهمتي القومية، مخلفًا ورائي شوقًا وحنينًا، وحفنة من المشاعر التي هونت علي طول البقاء.. خمس دقات، وزعتها أصابعي في تناغم على باب منزلي، ليعرف منها أبنائي أن الطارق هو أباهم، ولكن هذه المرة فتحت لي زوجتي، ثم استدارت في رتابة نحو الداخل وكأنها فتحت نافذة ليدخل منها الهواء!، ثم قالت في رتابة أيضًا (العيال مدوخيني من الصبح يا أخويا)، فلم أرد وأشرت إليها بيدي لإسكاتها.
مالك يا راجل؟ أشرت إليها ثانية علها تصمت.. شعرت زوجتي بالقلق واقتربت مني في دهشة، ثم وضعت يدها على صدري وقالت ثانية: مالك يا أخويا فيك إيه؟.. قلت لها بصوت خفيض: آه آه يا فوزية.. اقتربت مني في حالة تشبه المواساة، ثم قالت: سلامتك يا أخويا، قولي في إيه؟.
آه يا فوزية.. لقد رأيت اليوم فتاة أعرفها عن ظهر قلب، ولكن هذه المرة غير سابقتها، رأيتها بهية، تقف في زهو وفخر، رأيت فيها مستقبلي ومستقبل أبنائي، رأيت فيها الحلم والحقيقة، رأيت فيها الدفى والآمان.. اختطفت زوجتي يدها من فوق صدري وصكت بها وجهها، وهي تقول: يا لهوي بعد العمر ده جاي تقولي..
وضعت يدي على فمها كي لا تكمل ما تقول، ثم رويت لها قصة الفتاة.
سالت دموعها وقالت في صوت متقطع: دي آخريتها يا خويا، ما كانش العشم؟.. جففت دموعها بيدي وربت على كتفها ثم قلت لها، يا زوجتي العزيزة غير مسموح لأية امرأة غيرك أن تدخل حياتي
- كداب، ما إنت لسه معترف قدامي!.
يا زوجتي العزيزة.. هذه الفتاة ما هي إلا لوحة رسمها فنان عفوي على جدار المدرسة، التي توجد بها لجنتي الانتخابية والتي كنت أدلي بصوتي فيها، هذه الفتاة مرسومة على خلفية من ثوابت مصر العريقة، النيل والأهرامات وبضعة أشجار وبعض السنابل، هذه الفتاة يا فوزية هي صورة رمزية لـ"مصر".
- أجهز لك الغدا يا اخويا..؟