لم يتخيل مخترع الكاميرا بالتليفون المحمول أنها ستكون «أداة تلصص»، ولا أنها ستتحول إلى أداة «توثيق شعبى» لكل ما يمر بنا من مواقف وأحداث، وأن منظومة التوثيق ستكتمل بقدرة الفرد على نشر ما تحت يده من وثائق «ولو عشوائية»، بإنشاء قناته الخاصة على «اليوتيوب»! لدرجة أن البعض أخذ يتعامل مع «اليوتيوب» باعتباره الإعلام الموازى أو الشعبى.. لكنه فى نظرى يصلح لأن يكون «ذاكرة جماعية» لمجتمع لا تتجاوز سعة ذاكرته «ذاكرة السمكة»!
فى زمن اليوتيوب لن تستطيع أن تتنكر لمواقفك الوطنية من «عصر مبارك إلى ثورة 30 يونيو»، لن تفلت من مشاهدك القديمة وأنت بتسريحة شعر عجيبة التقطتها عدسة برنامج ما، ثم تذكرتها وعرضت على الناس «هيئتك الأولى».. سواء كنت «جان» أو كنت رجل الغابة.
فى أزمة استخدام مكبرات الصوت فى الأذان وصلاة التراويح، انتشر على «الفيس بوك» فيديو للشيخ «محمد متولى الشعراوى» قال فيه عن الميكروفون إنه أكبر نقمة على الأمة الإسلامية، وأكد أنه يصيب الإنسان بالصمم، وأن هناك من «يهبهب» قبل الأذان بساعة.. وكما عهدنا من مواقع التواصل الاجتماعى التى ترفع شعار «قبل وبعد»، حظيت فيديوهات الشيخ «خالد الجندى» بأعلى نسبة مشاهدة.. لأنه يصف «من قبل» أذان الميكروفون بالمزعج، ويهاجم الميكروفون الشرير، ويشبّهه بالحمار!! ويؤكد أنه لا حاجة له لأن «فيه مرضى ونائمين وطلبة يذاكرون وكمان فيه إخوة أقباط»!.
ثم يعود «بعد ذلك» ليؤكد أن الأذان هو رمز الدين وفخر الأمة ومطردة للشيطان فكيف يزعج المرضى؟!.. والحقيقة أنا لا أملك تفسيراً لنقطة التحول المفصلية ما بين «قبل وبعد».. إلا أن تكون مصر قد خلت من المرضى والطلبة والأقباط، أو أن الشيخ «خالد» ينعم بالسكن بعيداً عن الضوضاء والضجيج!
لم تكن معركة الأذان هى الوحيدة التى تسيّد فيها اليوتيوب الموقف، فقد لعب دور «البطولة» بحياد، وهو يوثق دعاوى تكفير الأقباط وتحريم تهنئتهم فى أعيادهم، وتحريض جماعة «الإخوان» الإرهابية على قتل جنودنا من الجيش والشرطة.. كما صوّر لقطات راقصة عند لجان الانتخابات والاستفتاءات، (أنا لست ضد البهجة لدرجة الرقص الجماعى)، ولا أغالى إن قلت إن اليوتيوب أصبح رقيباً على الكتّاب أنفسهم وعلى الإعلاميين، وإن هناك شباباً واعياً، وبعضهم يتسلى، يحلو لهم إظهار التناقضات التى وقع فيها المنافقون سياسياً حين كانوا يتصدرون المشهد.. وكأن لدى كل مواطن «سى دى» يفضح به الآخر وهو يدشن المصطلحات والصفات التى تلتصق فى أذهان العامة بالشخص المستهدف، فهذا «رجل لكل العصور»، والآخر «أكل على كل الموائد»، «مطبلاتى» أو «مطبعاتى».. ثروتك مشروعة أم لا؟.. سمعتك نقية كالماس أم غارقة فى الوحل: تكفى صورة «كرافيت» تعرى «أجدع شنب» من وقاره.. أو مشهد عار لممثلة معتزلة غطت وجهها وتحولت إلى «داعية» فتجدها بالبكينى الساخن لتسقط من على عرش «الفضيلة المزيفة» التى تدّعيها!
فى زمن اليوتيوب «اللعب على المكشوف».. أنا وأنت مراقبان، ونصف شباب البلد جواسيس على النصف الآخر ولو من باب التندر والفكاهة.
فى زمن اليوتيوب، لو منع مجلس النواب عرض جلساته ستجدها تقفز فى وجهك.. ومن السياسة إلى الفن والرياضة والإعلام سترى كريمة «المجتمع المخملى» والصعاليك أيضاً نجوماً بضغطة زر.. ستجد المرضى بالفضائح والتشهير، وأنصار الستر و«سك ع المواضيع».. كل شىء ونقيضه دون ثمن تدفعه لأنه «إعلام حر» مرتبط بإرادة جماهيرية كاسحة فى البحث عن الحقيقة أو تزييفها!