كانت الصين من أكثر الاقتصاديات قوة حتى عام 1820، ومع تعاظم نتائج الثورة الصناعية فى أوروبا بدأت قوى الصين تتراجع، واستمر هذا التراجع حتى وصلت الدولة الآسيوية إلى أسوأ وأضعف مراحلها فى الفترة من 1952 إلى 1974، ومنذ هذا التاريخ حتى الآن طبقت الصين مجموعة من السياسات التنموية الفريدة التى دونت قصة نجاح رائدة فى التنمية الاقتصادية السريعة، ووصلت هذه التنمية إلى أزهى مراحلها فى مطلع الألفية الثانية، حتى تنبأ لها العالم باحتلال مقعد قيادة العالم فى المستقبل.
واستمراراً لجهود التنمية الاقتصادية فى الصين ودعماً لمستقبلها الاقتصادى والسياسى ونفوذها العسكرى فى المستقبل، أعلن الرئيس الصينى شى جين بينغ عام 2013 عن مبادرة أطلق عليها اسم «الحزام والطريق»، تقوم فكرتها على إحياء طريق الحرير القديم الذى يضم -بحسب صحيفة الجارديان البريطانية- 71 دولة من آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، تضم معاً نحو نصف سكان العالم ونحو ربع إجمالى الناتج المحلى العالمى.
وفى مايو 2017 استضافت العاصمة الصينية بكين مؤتمراً دولياً للاحتفال بإطلاق المبادرة رسمياً، ونجحت الصين فى حشد دعم دولى واسع لهذا المشروع الذى أنفقت فيه حالياً أكثر من 210 مليارات دولار فى حين تشير التقديرات إلى أن استثماراته ستزيد على تريليون دولار، حيث تعهدت الصين باستثمار ما يصل إلى 150 مليار دولار سنوياً فى الدول المشاركة فى المبادرة.
الأمر الذى مكَّن الصين خلال الفترة الوجيزة الفائتة من أن تكون موجودة فيما يزيد على 65 دولة كمستثمر رئيسى فى مشروعات حيوية وضخمة لهذه الدول التى توجد ضمن المبادرة، وتشترط الصين للدخول كمستثمر فى هذه الدول أن تسهم الدول نفسها بجزء من التمويل، بل تخطى الأمر هذا الحد، حيث بادرت الصين بتأسيس بنوك ومؤسسات تمويلية تقرض هذه الدول.
واستمرت جهود التنين الصينى، حيث عقدت منذ أيام أعمال القمة الثانية لمبادرة «الحزام والطريق» فى بكين بحضور 5 آلاف مشارك من أكثر من 150 دولة و90 منظمة دولية، من بينهم 40 رئيساً وقيادة دولية من بينهم الرئيس عبدالفتاح السيسى، والرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وكريستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولى.
وأعلن الرئيس الصينى، فى ختام هذه القمة، عن توقيع اتفاقيات تتجاوز قيمتها 64 مليار دولار مع الدول المشاركة فى المبادرة، الأمر الذى يشير لمستويات الإنجاز العالية التى تحققها الصين فى هذه المبادرة، وانتظام العمل مع مختلف الدول المنضمة إليها، عدا بعض الدول التى حدثت بها تغييرات حكومية مثل ماليزيا والمالديف.
وفجَّر هذا التوجه الجديد والمتنامى للصين مخاوف ليست فقط للأمريكان، ولكن لدى العديد من الدول الأوروبية التى تتعامل بشكل حذر مع تغلغل نفوذ الصين فى الدول الفقيرة أو النامية الموجودة على طريق الحرير التجارى القديم.
حيث أوضحت الدول الأوروبية أن الصين تستطيع من خلال هذا الوجود أن تهدد الوحدة الأوروبية وأن تضغط على الدول المنضمة للمبادرة لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية واقتصادية متعددة، مستغلة الديون التى تغدق بها الآن على الدول المنضمة، والشروط الميسرة التى تجذبها لمضاعفة الاقتراض، وهذا الرأى أيدته وزارة الدفاع الأمريكية التى توقعت أن تبدأ الصين فى بناء قواعد عسكرية، لحماية استثماراتها فى الدول الموجودة فى مبادرة «الحزام والطريق».
ومن ناحية أخرى، أعربت كريستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولى، عن تخوفها من مخاطر ديون محتملة للدول الشريكة فى هذه المشروعات، فى الوقت الذى رحبت فيه الصين بتقديم المؤسسات الدولية مزيداً من الدعم المالى للدول المشاركة فى المبادرة، وكشفت بكين أنها على استعداد لمساندة الدول فى توفير المزيد من الخدمات العامة وتعزيز قدرتها على خدمة الديون.
فى نفس الوقت كان للبنك الدولى موقف آخر تمثل فى غياب رئيسه ديفيد مالباس عن حضور الاجتماعات، حيث حضر إليها كريستالينا جورجيفا الرئيس التنفيذى للبنك الدولى، حيث اختار «مالباس» القيام بزيارة خارجية أخرى بالتزامن مع هذه الاجتماعات، وتوجه لزيارة أفريقيا وخاصة دول جنوب الصحراء فى جولة ضمت مدغشقر وموزمبيق وإثيوبيا فى 29 أبريل الماضى، ويختتمها حالياً فى مصر.
ويترجم هذا التصرف وجهة نظر «مالباس» فى المبادرة، وعدم ترحيبه بها، وهو التوجه الذى سبق أن أعلنه عندما كان نائباً لوزير الخزانة الأمريكية فى حكومة ترامب، واستعراضه لمخاطر تنفيذ هذه المبادرة الصينية مع مجموعة السبعة، ومجموعة العشرين.
وبالتالى تشير التطورات الحالية إلى إمكانية حدوث اختلاف يصل إلى حد التنافس بين الأهداف المستقبلية لكل من البنك الدولى ومبادرة الحزام والطريق، دون صياغة خطة تكاملية بين الطرفين، مع توقع استمرار الصراع على الساحة الدولية بين واشنطن التى تناهض المبادرة، والصين التى تقودها.
وأصبح على الدول النامية وغيرها أن تحدد موقفها من المعسكرين، بحسب مصالحها ورؤيتها للمكاسب المتوقعة من الانضمام لهذا الجانب أو ذاك، فى حين أن «موازنة الأمور» والبقاء فى «المنطقة الرمادية» أصبح أمراً صعباً بعد أن كُشفت الكثير من أوراق اللعبة!