زيارتنا لمنازلنا القديمة، أو استماعنا لأغانى طفولتنا، أو مشاهدة ألبوم صورنا، أو غيرها من تقنيات «تقليب المواجع» تولّد لدينا حالة من «الحنين»، الذى يسمى «نوستالجيا».
لدينا آلاف القصائد التى تبدأ بالبكاء على الأطلال، بينما المنطق يقول إن الانشغال بالماضى يبقيك فى الحاضر، ويمنعك عن المستقبل، فالجرعة المعتدلة من النوستالجيا تُجنب الإنسان الاكتئاب، لكنه يُصاب باكتئاب حاد إذا ما استغرق فيها.. وربما تكون راحتنا للنوستالجيا منبعها أننا، ونحن صغار، لم نكن محمّلين بالمسئوليات والأعباء والهموم والمشكلات، وبالتالى فنحن فى الحقيقة لا نستحضر الماضى نفسه، ولكن نستدعى حالتنا فى ذلك الماضى.
«نوستالجيا» كلمة أصلها يونانى، فالمقطع «نوست» يعنى الرجوع للبيت، و«الجيا» تعنى الألم، والمقصود بها هو الحنين إلى أحداث الزمن الماضى، وكان المصطلح مرتبطاً بما يعانيه المغتربون من مشاعر مؤلمة للحنين إلى أوطانهم، بعدها توسع استخدامه ليكون معبراً عن الحالة النفسية التى يشعر فيها الإنسان بالحنين للعودة لمرحلة أقدم من حياته.. ويمكننا القول إن المقصود تحديداً بمصطلح «نوستالجيا» الآن هو «الحنين إلى ماضٍ مثالى خال من العيوب»، وهذا طبعاً لا يمكن تحقيقه، لأن كل زمن له ميزاته وعيوبه، لكن الماضى يمر عبر «فلتر» ذاكرتنا الضيق الذى لا يمرر الأخطاء الكبيرة والسقطات العظيمة التى عشناها فى الماضى أو عاش فيها أسلافنا.. فالزمن عندنا يتحول إلى «جميل» بمجرد أن يمر ويموت كل من عاصروه، فيأتى من يتباكى عليه ليقول ما معناه «رحم الله الزمن الجميل».. يحدث هذا لأننا نذكر محاسن موتانا وننسى دوماً كل ما هو مسىء.. الزمن الجميل أصلاً لم يأت بعد ولا أظنه سيأتى أبداً. هو مثل الشبح الذى لا يظهر إلا فى الظلام، ولا يراه أبداً إلا شخص واحد فقط.. ليحكى ما حدث براحته!
الشخص الموهوم وحده هو من لا يشترى من الماضى إلا جيّده، بينما ينسى أنه، وكعادة كل زمن، ملطخ بردىء الأفعال! فأنت إن عدت لعصر النهضة مثلاً لن تشغلك فقط عظمة «دافنشى» أو روعة «رامبرانت» أو جمال «مايكل أنجلو»، لكن سيؤرقك للغاية عدم وجود «دورة مياه» لائقة تقضى فيها حاجتك!! والواهم فقط هو من يحاول تصوير الماضى على أنه جنة ليعيش أسير أسطورة «الزمن الجميل».
من مشاكلنا أننا نمر من بوابة الحاضر والذى يتحول إلى ماضٍ ينحصر دوره فى أن نتذكره، أما العيش فيه، فهو عبث لأنه ليس موجوداً أصلاً، وبالتالى تحول الكثير فى عصرنا الحالى إلى أحد نموذجين: إما كائنات افتراضية تعيش وتتعايش على مواقع التواصل الاجتماعى، أو كائنات حقيقية من دم ولحم، لكنها تحيا بيننا فى واقع افتراضى منسوج من خيوط الماضى الدائبة والتى تقطعت ولم تعد تصلح لنسج أية أثواب غير ثوب الندم على ما فات، وهو مثل الثوب القاتل لـ«هرقل»، يحرق كل من يرتديه بنيران الوحدة والاكتئاب.
إن كان من المرجّح علمياً أنه يمكن السفر للمستقبل، فإنه لا دليل حتى الآن على إمكانية العودة للماضى. ولكن هذا الطرح تم تعديله فى وطننا العربى عبر محاولات البعض استنساخ ما فات، لدينا مثلاً فصيل كان يريد أن يعود بنا إلى الوراء زمنياً، رافعاً الراية السوداء للدولة العباسية، ويطالبنا نحن برفع الراية البيضاء، وتركه يعيث فساداً بعقولنا.. لكن الله ستر.