ماذا نحن فاعلون فى هذا الكم الرهيب من مظاهر التشدد والتطرف؟ وماذا أعددنا من خطط لمواجهة انعدام السماحة وتشيىء كل ما يتعلق؟ وما المسارات القادرة على إخراجنا من متاهات شيطانية جعلت ملايين المصريين ينبذون هويتهم وثقافتهم ويعتنقون هجيناً مشوهاً لا هو بالمصرى ولا هو بالإسلامى؟
أصل المأساة بدأ وقت تُرِكت ملايين المصريين يتخلون عن عادات وتقاليد ومفاهيم مجتمعية وتفسيرات دينية خاصة بهم جعلتهم يكتسبون صفة «المجتمع الوسطى» عن حق.
كان المجتمع المصرى حتى منتصف السبعينات أكثر وسطية وتسامحاً وتنوعاً وتحضراً ورقياً، بل كان إلى الله أقرب فعلاً لا مظهراً أو صوتاً. وإذا كان الداعية السعودى الشهير بتشدده المعروف بتطرفه الذى يعتبره مصريون كثيرون عالماً يحتذى ومثالاً غير قابل للتشكيك الدكتور عائض القرنى قد خرج فى خطوة مثيرة ليعلن «توبته» عن التشدد وإصدار فتاوى «مخالفة للقرآن والسنة»، فإن رد الفعل المتوقع فى مصر سيقف على طرف نقيض من رد الفعل فى السعودية.
وإذا كان الدكتور عائض القرنى قد أعلن -بغض النظر عن خبايا النفس- عن توبته من النسخة الرهيبة الغارقة فى التشدد الممعنة فى التطرف من التدين التى ساهم بقدر غير قليل فى نشرها وتغلغلها، فمن يلملم آثار نسخته هذه ومن يصلح نتاج تشدده الذى أتى على مدى العقود الخمسة الماضية على أخضر الإسلام ويابسه؟ وبعيداً عن الإنكار ومحاولات تبييض الوجه وتطهير السمعة، هل بالفعل نتعجب أن يصاب البعض فى العالم بالفوبيا تجاه البعض من المسلمين والبعض من أفعال المسلمين؟!
وإذا كانت جماعات كـ«داعش» يتردد أنها صناعة غير المسلمين لتشويه المسلمين، أو تخطيط الغرب لخراب الشرق الأوسط وغيرها من التخمينات، فماذا عن جماعة مثل «الإخوان المسلمين» التى تُركت ترتع فى ربوع دول عدة ومنها مصر وأمريكا وغيرهما حتى صار لها أتباع ومتعاطفون ومؤمنون بأن الجماعة هى مندوب الله على الأرض؟ وماذا عن أدعية كانت تتردد نهاراً جهاراً عبر مكبرات الصوت (وما زالت ولكن بصوت أخفض نسبياً) فى بعض المساجد للدعاء على غير المسلمين هكذا بالفم المليان «اللهم دمر أعداء الدين من اليهود والنصارى والعلمانيين والشيوعيين» ومعها بالمرة «أمريكا معقل الظلم والإلحاد معقل الكفر والفساد» مع تشكيلة معتبرة من السبل المقترحة للقضاء على كل من سبق حيث «ريح عاد والصرصر العقيم وصيحة ثمود وطوفان قوم نوح وطير أبابيل وما تيسر من أعاصير»؟
أعاصير النسخة الرهيبة من التدين التى تمكنت من أوصال الملايين من المسلمين فى العالم ووجدت طريقها بشكل واضح وصريح بين الكثيرين فى مصر ما زالت تحصد الكثير.
توبة الدكتور عائض القرنى مجرد رسالة صغيرة لمن يهمه الأمر فى مصر. ولمن يهمه الأمر فى مصر، فإن جذور التشدد للأسف الشديد عرفت طريقها إلى قلوب وعقول الكثيرين ممن اعتبروا مصر البهية المتنورة بمثقفيها وعلمائها وفنانيها ومعلميها ومتعلميها حتى قبل خمسة عقود مضت إنما كانت خارجة على الدين ومحاربة للإسلام. تخيلوا أن إطلاق أسماء فنانين مثل أمينة رزق وزكى طليمات ويوسف وهبى وفاتن حمامة على شوارع ومدارس فى المدن الجديدة يثير غضب البعض من السكان، ومنهم الأطباء والمهندسون والمحاسبون «لأنه لا يصح أن يطلق أسماء من يروجون للرذيلة على الشوارع والأجدر أن يطلق أسماء علماء الدين عليها».
هل يعقل أن يكون الهم الشاغل للبعض فى مصر هذه الأيام هو الضغط على الدولة لإطلاق مكبرات الصوت وبث صلاة التراويح عنوة ليسمعها الجميع؟ لا يغضبهم انفلات سلوكى وتردٍ أخلاقى وخلفة عيال «عمّال على بطّال» وإطلاقهم فى الشوارع لتتكفل بهم الدولة، لكن تشغلهم صلاة التراويح عبر المبكرات؟ هل يعقل أن يتم تصنيف المعترض على مكبرات الصوت لبث الصلاة «معادياً للدين» و«محارباً للإسلام» فى العام الـ19 من الألفية الثالثة؟
قبل عام تقريباً، وتحديداً فى مارس عام 2018 كتبت فى هذا المكان مقالاً عنوانه «أيتام التطرف الدينى»، وذكرت فيه أن «ما يجرى فى السعودية، والذى يعد ثورة كبرى من شأنها ألا تغير شكل الحياة فى المملكة فقط، لا سيما فيما يتعلق بالنساء اللاتى عانين لعقود طويلة من القيود الرهيبة، ولكن من شأنه أيضاً أن يخلف وراءه الكثير من اليتامى الذين استيقظوا ذات صباح فلم يجدوا المرجعية الفكرية والمجتمعية التى طالما ارتكنوا إليها فى تحليل التشدد وتجميل التزمت».
اليوم مر عام، والسعودية تركض قدماً لنفض غبار التشدد القبيح. واليوم مرت أربعة أعوام ونصف على دعوة الرئيس السيسى لتجديد الخطاب الدينى، تلك الدعوة التى لم تلق آذاناً صاغية أو إرادة متوفرة أو رغبة متبلورة. وأختم بما ختمت به قبل عام. فأخشى ما أخشاه أن يمضى البعض من المصريين ممن وجدوا فى التدين المظهرى والصوتى أفيوناً يمنحهم الشعور بالفوقية الدينية والمجتمعية قدماً فى طريق الظلام. وبدلاً من دق جرس الإنذار بأن طريقنا نحو التنوير بات ممهداً، نجد من يمسك بتلابيب الظلام ويشدنا معه عنوة نحو المزيد من مسخ الدين.
ملحوظة أخيرة: مؤلفات الدكتور عائض القرنى متاحة للبيع أون لاين، ومن كان أون لاين لا يموت. لكن الأخطر أنها مزروعة فى القلب والعقل.. أعلن «القرنى» توبته، فهل نتوب؟