أبلغونا بموعد السفر إلى الإسكندرية.. كانت الأحداث متصاعدة فى الخليج العربى والقوات العراقية تعلن التحدى بعد أن سيطرت على الكويت تماماً ويرفض صدام حسين أى حوار حول الانسحاب من هناك حتى لتفويت الفرصة على القوات الأمريكية وحلفائها المتربصة به وبالمنطقة.. وبات الهجوم الأمريكى قريباً جداً وانطلقت التحليلات السياسية والعسكرية فى كل مكان.. كلها تتناول خطط الهجوم لإخراج القوات العراقية من الكويت.. كنت لم أعمل بالصحافة بعد طبعاً لكننى كنت ممثلاً للجيل الجديد بصحبة عدد من السياسيين والصحفيين منهم الكاتب الصحفى الكبير حسن بديع، والدكتور محمد كمال أستاذ الإعلام بجامعة صوفيا ببلغاريا والمقيم هناك!
كانت أجواء الصيف الحارة تشجع على الذهاب إلى الإسكندرية، وكان هو أكبر وأهم قيادة عسكرية يمكن سؤالها عن الأوضاع الجارية والاطمئنان على مصر وهل هى فى خطر؟ وعلى بلادنا العربية وما يحيط بها.. وفى الموعد المحدد كان الرجل العظيم فى انتظارنا.. يقترب بخطواته العسكرية المهيبة وكبرياء العسكرية المصرية يمنح الزمان والمكان بعداً آخر لا مثيل له، خصوصاً وأنت تستقبل الرجل الذى أعاد بناء الجيش المصرى بعد 67 ورد الاعتبار له فى زمن قياسى، وساهم بحزمه وحسمه اللذين اشتهر بهما فى تغيير موازين عديدة وأعراف استقرت لفترة طويلة حتى أصدر قراره التاريخى بضرورة تجنيد أصحاب المؤهلات العليا فى الجيش المصرى!
استقبلنا الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية الأسبق، أو الـ«جنرال» الصارم كما يلقبونه، والذى قاد حرب الاستنزاف بنفسه باعتباره القائد العام ومعها بناء حائط الصواريخ وعمليات الصاعقة العظيمة كلها وتدمير إيلات والحفار وغيرها من أعمال بطولية كبيرة، وراح يشرح موقف المعركة المحتملة وقدرات كل جانب والحل الأمثل كما يراه.. كان الفريق أول فى مصيفه ومعه أسرته كاملة.. أسرة طيبة محترمة مهذبة كريمة.. ومن مكان إلى آخر انتقلنا لطول اللقاء حتى موعد الغداء.. كانت سيدات الأسرة فى المكان وكان هناك شاب صغير هادئ فى الاستراحة الكائنة بالعصافرة ولا نعرف إن كانت ملكاً لسيادة الفريق أم هى لقضاء أيام أو أسابيع فى الصيف بالإسكندرية!
تمر الأيام وبعدها بعامين ولسبب آخر زرت مرة أخرى الفريق أول محمد فوزى فى بيته بشارع الفتح بمصر الجديدة ليشرح بعض الأمور بصحبة الدكتور عبدالرحمن سعد الأستاذ بجامعة بنها حالياً، ولم أكن أيضاً قد عملت بالصحافة لكن كنت تخرجت من الجامعة.. وهناك وفى بيت العائلة رأينا التواضع على أروع ما يكون.. هنا البيت الذى تربى فيه شريف مدكور لغياب صاحبه فى مستشفى المعادى بالقوات المسلحة متهماً فى قضية سياسية فى بداية عهد الرئيس السادات لا مجال الآن أيضاً للخوض فيها.. حتى عاد إلى بيته بكل كبرياء يجمع شمل أسرته ويعيش معها ما تبقى من عمره! فى هذه الأجواء تربى ونشأ «شريف».. بين خليط -كما قلنا سابقاً- من الصرامة والكبرياء والنظام والانضباط والحسم والحزم، مع الأخلاق والأدب والكرم واحترام الآخر والهدوء النفسانى والروحانى.. ومن هنا كانت النشأة التى أثرت على مسار حياته كلها فيما بعد!
فرغم عراقة العائلة ودورها الوطنى ودور «كبيرها» فى العسكرية المصرية بل والعربية والتاريخ الذى صنعه وساهم فيه حتى وضع خطة النصر الكبير فى أكتوبر، كما يقول اللواء سمير فرج، وهو ما يؤدى بالطبع إلى علاقات مهمة يتسابق عليها الجميع خصوصاً فى الدول العربية الشقيقة بين ساعٍ للحصول على حق كتابة المذكرات وبين من يرغب فى توظيف الرجل سياسياً أو حتى الاستفادة بخبرته العسكرية كمستشار عسكرى هنا أو هناك وبما يفتح خزائن لا أول لها وعلاقات لا آخر لها.. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث.. بل يروى شريف مدكور كيف خرج للعمل ولمشاق الحياة معتمداً على نفسه وهو ابن الثامنة عشرة! لم يكن مرفهاً كما يزعمون ولم يذهب وهو فى هذا العمر ككثيرين من أبناء «الكبار» لتسلم العمل فى إحدى الوظائف الكبيرة أو أحد الأماكن المرموقة لا فى القطاع العام ولا الخاص ولا فى بلد عربى غنى.. بل ذهب للعمل الخاص معتمداً على نفسه.. فعند القضية السياسية التى تكلمنا عنها لجده الفريق أول محمد فوزى سجلت النيابة ثروة الرجل وكأنها ثروة عادية لموظف مصرى بسيط.. مبلغ بسيط جداً فى البنك وشهادات استثمار لابنتيه إحداهما فى أغلب الظن والدة شريف فلم يكن للفريق فوزى إلا ابنتان وابن!
بالقطع أثر العمل الخاص على شريف دافعاً بفكرة الاعتماد على النفس خصوصاً أن العمل الخاص كان مصنعاً لملابس الأطفال.. يربح موسماً ويخسر آخر حتى أغلق تماماً واتجه لعمل آخر ومنه إلى عمل ثالث حتى تقدم للتليفزيون المصرى فى إحدى قنواته المتخصصة وليس فى قنواته الشهيرة المعروفة، لكنه ينجح هناك ويلفت الأنظار ثم إلى مسيرته التى نعرفها وتعرفونها!
فى هذه الأثناء لم نعرف عن تاريخ أسرة شريف مدكور شيئاً وتحديداً عن جده لوالدته الذى رأى بعد أن كبر كيف تكرمه الدولة.. من استقبال الرئيس مبارك له وتقديم قادة القوات المسلحة التحية العسكرية له فى احتفال تخريج إحدى دفعات الكلية الحربية ثم يسير فى جنازته عام 2000 وإلى تكريم الرئيس السيسى لاسمه وإطلاق اسمه على إحدى المنشآت التى صممتها القوات المسلحة وغيرها، وبينهما تكريم الرئيس عدلى منصور له ليعلن شريف عن افتخاره واعتزازه بجده!
«شريف» مثله مثل أى مصرى وعربى.. يصف إسرائيل بـ«الكيان الصهيونى» وأنها محتلة لأرضنا باعتبار كل الأرض العربية واحدة.. ويرفض عودة التاريخ للوراء بعودة الملكية لمصر!
الآن.. هل عرفتم سر شجاعة شريف مدكور فى مواجهة المرض وسر اعتماده على الله وعلى محبيه؟ هل عرفتم سر ترفعه عن سخافات الشامتين من جماعات تصفية الحسابات الشريرة ممن يفتقدون أى خلق وأى تربية وافتقادهم أى شرف فى تقديم أسرهم خدمات للوطن؟
كل الأمنيات بالشفاء العاجل لرجل أظهرت أزمته مع المرض مدى حب الناس له.. وحب الناس الدليل الأول والأكيد لرضا وحب الله!