التعصب الذى أعنيه هو التعصب بعامّة، فى صوره وأشكاله ومنازعه الشتى. والتعصب إجمالاً نقيض الاعتدال، وحاجة الإنسان إلى الاعتدال فى طاعة أو مسايرة عواطفه، قد تتساوى مع حاجته لطاعة عقله.. ولا شك أن العقل آمن من العواطف فى نشدان الاعتدال. بيد أن معظمنا لا يوفقون للمحافظة على الاعتدال، وغالبيتنا تعيش معرضة لنوبات التطرف فى حياتها الخاصة، وأحياناً فى حياتها العامة، ويجرى ذلك حين تتغلب العواطف على العقل، وحين يضيق الأفق ويقصر النظر وتغلب الانفعالات. ومفارقة الاعتدال إلى التعصب أو التطرف تحدث على درجات مختلفة حسب التركيب المادى والمعنوى للفرد، وظروفه وسنه وشعوره بخفة أو ثقل مسئولياته فى حياته. وكما يمكن أن يؤدى انسياق الفرد لعواطفه، إلى المغالاة والتعصب والتطرف، فإن المجموع عرضةٌ لهذه المغالاة، وهذه وتلك تندرجان فى تشكيل التعصب الذى يلازمه إصرار غريب عنيد. هذا الإصرار العنيد قد يفقد به صاحبه حياته إذا جرى وراء تعصبه، ولم يكبح جماحه بعقله، وربما كان الكبح صعباً لأن التعصب يوقف فى المتعصب عمل العقل وكل عاطفة إنسانية.
دوافع المغالاة!
تحدث المغالاة غالباً مع تحكم العواطف الإيمانية.. مثل الشعور بالانتماء إلى دين أو ملة أو مذهب أو طائفة أو جماعة دينية، أو بالانتماء إلى جنس أو شعب أو قبيلة أو عشيرة أو أسرة، أو بالانتماء إلى طبقة أو فئة، أو الانتماء إلى حزب أو نادٍ أو فريق، أو الشعور غير العادى بالأنا وقيمة الذات وما تتبناه من عادات وأفضليّات ومصدقات ومبادئ وأفكار. ومغالاة الآدمى فى عاطفته الإيمانية المتعلقة بتلك الانتماءات تضخم ذاته حتماً، وترفعها فى عين نفسه إلى مقام لا يقبل ولا يطيق المساس به أو الاختلاف معه، وتجعل كل مساس بقيمة أى من هذه الانتماءات مساساً مباشراً بذاته هو.. لا يقبل بشأنه الأسف أو الاعتذار أو التهدئة، ويطلق فيه انفعالاته من عقالها وقيودها بلا تعقل، فينسى الأصول والحدود والمقبول والمعقول. ويبدو أن تلك المغالاة ترجع بالآدمى إلى قديمه السحيق من ضرورة الدفاع ضد الأعداء ومواجهة المخاطر بكل وسيلة وحيلة.. وهو «قديم» لم يعد باقياً منه الآن إلاّ خيالات وتصورات عميقة فى أفراد أو جماعات متخلفة ما زالت تتوارث مصدقاتها ومعتقداتها حتى اليوم. ولذا احتالت الدول المتحاربة فى الحربين العالميتين، على خلق التعصب خَلْقاً لدى الجنود باستمرار تلقينهم الشعور بعمق عداوة العدو ووحشيته وأطماعه وفداحة خطره على الوطن والأهل والأنفس والأموال.. تخلق الدول هذا التعصب لكى يقاتل كل جيش خصمه بكل ما تتم إثارته لدى أفراده من حماس وتعصب وإصرار وعناد بلا تفكير فى أى شىء آخر سوى إتقان القتال للفتك بالخصم.. وربما يسر تحقيق ذلك التعصب بنجاح أن الجيوش مبنية على الطاعة شبه العمياء والاعتياد على التكرار الذى لا ينقطع فى التدريب والتعليم والتشابه فى المعيشة بين الدرجات والرتب.
آليات التعصب
وكما يكون التعصب دينياً أو جنسياً أو قبلياً أو طبقياً أو أسرياً أو فردياً، يكون أيضاً تلقائياً ليس ثمرة أى تنظيم محكم، كما يكون كَسْبياً منظماً مدرباً كما فى الجيوش المحاربة وفى العصابات والجمعيات السرية، وفى المؤامرات وحلقات المتطرفين والفوضويين وتشكيلات الفرق العصابية الإرهابية. ولا ينجو من هذا التعصب الحكام المستبدون، بشعور المستبد بتسيد إرادته وغلبتها على سائر الإرادات فى كل أمور الحكم والمجتمع، وعدم خضوعها كغيرها للمحاسبة والمساءلة، وللجزاء والعقاب.. ويبقى هذا التعصب ما بقيت سيادة المستبد أو فى عقبه من بعده.. إرثاً كانت ولاية الحكم أو فرضاً وجبراً أو اختياراً ظاهرياً. وغالباً ما يكون هذا التعصب سبيلاً للوصول إلى الحكم والتفرد بالسلطة بلا شريك أو نظير.
وقد كان ذلك شائعاً بكثرة فى الأباطرة والملوك وأمراء الدول فى التاريخ القديم والوسيط والحديث، وشاع أكثر فيما بعد الحرب العالمية الأولى مع انتشار النازية والفاشية والشيوعية. وإلى هذا الانتشار تعزى معظم أسباب الحرب العالمية الثانية، كما يُعزى إليه قيام الديكتاتوريات فى البلاد التى بليت بها فى أمريكا الجنوبية وفى أفريقيا وفى آسيا بعد تلك الحرب، إلى أن تتداعى وتسقط بعد سنوات طالت أم قصرت من الفساد والإفساد الذى جره التعصب وتوالى المستبدين المتعصبين على السلطة!
التعصب والإرهاب
مَدَّ التعصب جذوره إلى تشجيع بل وصناعة الإرهاب، ونشره واختيار فرقه وتشكيلاته من الشواذ ومن الشباب المتعصب بفعل الجهل والقصور، الذى يكرس الإرهاب تعصبه ويدفعه إلى التدريب والمران على العنف والتفجير، وعلى الاغتيال والقتل والذبح وقطع الرقاب وحرق المرافق والأحياء ونسف المصالح والمصانع، وإغراق السفن، وإسقاط وخطف أو تفجير أو إسقاط الطائرات بركابها، وتدمير السكك الحديدية وخطوطها وقطاراتها. ولم يعد خافياً أن تلك الجماعات الإرهابية صناعة دول، شكلتها وموّلتها وسلّحتها وجعلت تبثها من وراء الستار إلى المناطق والدول المطلوب ضربها أو العبث فيها، كما لم يعد خافياً أن هذه التشكيلات الإرهابية قد انتقلت من خدمة الدول التى استغنت عنها لسبب أو لآخر، مثل بقايا طالبان وغيرها ممن كانت الولايات المتحدة قد جهزتها ودفعت بها إلى أفغانستان، التى انتقلت أرتالها بعد انتهاء مهمتها هناك إلى مهاجمة دول أخرى لشغلها بالقتل والنسف والتدمير لتحقيق مآرب وأغراض ملبوسة، مثلما صرنا نرى بمصر والمنطقة العربية بالعقد الأخير، التى دفعت إليها هذه التشكيلات الإرهابية لإحداث الفوضى وإسقاط الأنظمة وشغل الحكومات والشعوب عن مهامها إلى الدفاع عن أمنها وأرواح بنيها وحماية مرافقها العامة والممتلكات الخاصة، ثم إجبار من يرضخ على الاستجابة لمطالب وأغراض الجماعات الإرهابية ومن وراءهم، الذين يعيثون فى الأرض فساداً، ويقتلون الأبرياء، ويأتون على الأخضر واليابس، ويهلكون الزرع والضرع، وينسفون المنشآت والمرافق العامة ويعرقلون مسيرات الأوطان والشعوب!
تتفق هذه الكيانات الإرهابية الضالة على العنف واستباحة الأرواح والدماء، والمرافق والممتلكات العامة والخاصة، مثلما تتلاقى على نسبة نفسها كذباً إلى الإسلام، ولا ترى بأساً من أن تستدير على المسلمين، فترى جماعة «أنصار بيت المقدس» تترك القدس وتعمل القتل والذبح فى المسلمين!!
لو كان هؤلاء مسلمين حقاً، لكفوا عن تشويه الإسلام فى عيون العالم!
فالإسلام برىء مما يقارفون!