كمال الشناوى يكتب: أول امرأة وسيجارة وكأس
كمال الشناوي
عندما بدأ العام الدراسى، وأنا فى السنة الرابعة الابتدائية، حزّ فى نفسى أن أرى الغالبية العظمى من تلاميذ فصلنا يرتدون بنطلونات طويلة بينما أنا أرتدى بنطلوناً قصيراً، وقضيت اليوم المدرسى أفكر فى الطريقة التى أستطيع أن أقنع بها والدى لكى يشترى لى بدلة ذات بنطلون طويل حتى أتساوى مع جميع الزملاء، وحين ذهبت إلى البيت فشل كل ما فكرت فيه لأن والدى رفض ولكنه بعد وساطة والدتى وعدنى بأن يحضر لى البدلة المنشودة عندما أنال شهادة الابتدائية، وقد كان هذا حافزاً لى على الاجتهاد وترقب اليوم الذى تعلن فيه النتيجة وأجد نفسى بين الناجحين. وقد كان، وبرّ أبى بوعده ولم تسعنى الدنيا من الفرحة حينما جاء لى ببدلة أنيقة غالية.
وكنت أحب فتاة أقابلها بين الحين والحين فأخفيت عنها نبأ البدلة وقبل الموعد بساعات كنت أرتدى البدلة وأروح بها وأجىء أمام المرآة، وقد وضعت فى جيبها منديلاً يطل منها فى إغراء.
وحين ذهبت لمكان اللقاء حرصت على أن أرى وقع المفاجأة فى نفسها، وكان فرحى حين ابتسمت وهى تقول: «مبروك.. هايلة يا كمال».
كنت أخفى فى جيبى سراً.. هو شىء لا بد منه لتكتمل لرجولتى كل أسبابها، فالبدلة ذات البنطلون الطويل تستلزم مباشرة سيجارة فى الفم وإلا فأين الرجولة، كنت قد اشتريت علبة السجائر منذ اليوم السابق وأخفيتها بين طيات الفراش ونقلتها فى حذر إلى جيب البنطلون.
سرنا على كوبرى قصر النيل، النسيم الجميل يداعب خديها وينشر شعرها فى إغراء، وقد فكرت أن الوقت قد حان لأدخن السيجارة الأولى فى حياتى وقد أشعلتها ببراعة خبير فى هذا الفن منذ سنوات ووضعتها فى فمى ثم تأبطت ذراع فتاتى ومر بنا بائع «ترمس»، وكنت أعرف شغفها بهذا النوع من التسالى فاشتريت قرطاسين، قرطاساً لى وقرطاساً لها، وسرت مشغول اليدين؛ الأولى أمسك بها ذراعها والثانية أمسك بها قرطاسى الملىء «بالترمس»، أما السيجارة فهى فى وضعها الأول فى جانب من فمى، وكنت أشد الأنفاس العميقة وأخرجها من فمى فتتصاعد إلى عينى كل هذا وأنا أتحدث وهى «تقزقز» الترمس، وبدأ الدخان يفعل مفعوله فى عينى فتجمعت الدموع فى عينى ثم انحدرت لتبلل خدى ووجدت أن من المهانة لى أن أسحب يدى من يدها وأمسك بها السيجارة، إذ كان معنى ذلك أن أجفف دموعى بعد هذا واخترت أن أترك السيجارة بين شفتى وأمضى فى الاستماع لحديثها الذى كنت أؤمن عليه بـ«أيوه» دائماً حتى لا أشتبك فى جدال قد تسقط السيجارة أثناءه من فمى، وقد ابتعدت بوجهى عنها حتى لا ترى الدموع، كل هذا ونحن نسير إلى أن وصلنا لنهاية الكوبرى فوقفت تحت أعمدة النور وقالت فجأة:
نقف هنا شوية فى النور.
وسقط الضوء على وجهى وبانت لها دموعى فقالت على الفور «الله.. أنت بتعيط» وكانت السيجارة قد احترقت ووصلت النار إلى شفتى ولم أكن قد تنبهت لهذا فصاحت فى: «ارمى السيجارة يا كمال وامسح دموعك» ولم أستطع أن أجيبها بشىء فقد كان ما رأته أقوى من أن أكذبه.
عدت إلى البيت فى تلك الليلة وقد امتلأت نفسى بحرارة الهزيمة.
كانت هذه هى السيجارة الأولى وكان درساً قاسياً جعلنى أبتعد عن السجائر خمسة أعوام بعد ذلك الحادث.
والدى يؤمن بالحكمة الطبية القائلة: «قليل من الخمر يصلح المعدة» وقد اعتاد هو أن يشرب هذا القليل من الخمر إذا كانت له مناسبة، وكان يعتبر هذا شيئاً طبيعياً لا بأس من أن أشاركه فيه رغم حداثة سنى، وكانت نظرته هذه إلى الخمر تجعلنى أنظر إليها على أنها دواء لا أكثر.. إلى أن كانت إحدى الليالى حين دعانى أحد الأصدقاء إلى حفلة عيد ميلاد، وقد ذهبت فوجدت فرحاً وطرباً وخمراً وشاركت المرحين مرحهم وطربت مع الذين طربوا، ولكنى امتنعت عن شرب الخمر بالصورة التى كانوا يشربون بها لأنها لم تكن الصورة التى كان يشرب بها أبى وكانت الكوكاكولا قد ظهرت فى الأسواق منذ يوم واحد ولم أكن قد شربتها من قبل ولا عرفت مذاقها، وجاء صديقى صاحب الحفلة وهمس فى أذنى: «أنا عاوز أديك حاجة كويسة قوى».
قلت له: «إيه هيه؟» قال: «كوكاكولا من الجديدة..».
فوافقت، وغاب قليلاً وعاد بكوب ملىء وشربت الكوب دفعة واحدة، وقلت على أثر ذلك: «ياه ده زى الخمرة تمام» وضحكوا كلهم لهذا التعليق فأحسست أن فى الأمر شيئاً، وبعد دقائق كان رأسى يدور وكنت أرى كل شىء اثنين أو ثلاثة أو أربعة وارتميت على أحد المقاعد واستغرقت فى سبات استمر إلى آخر الحفلة، وخرجت إلى البيت محمولاً على الأعناق.
لا أنسى ما حدث فى تلك الليلة فقد رآنى أبى على هذا الحال فضحك وقال: «يظهر يا كمال إنك شربت قزازة الدوا كلها».
أديت امتحان الانتقال فى السنة الثالثة الثانوية، ورحلت مع كل أسرتنا إلى الإسكندرية لقضاء فصل الصيف هناك، ووقفت عند نافذة القطار أستمع لأبى وهو يوصى أحد أصدقائه بأن يبلغنا نتيجة امتحانى.
كنت مطمئناً لهذه النتيجة فقد استذكرت جيداً وأجبت جيداً وكان كل شىء يبشر بالنجاح، وقد أستمتع بالصيف كما يستمتع به المصطافون السعداء إلى أن كان ذات يوم حين تلقى أبى خطاباً فضه ونحن جلوس حوله، ومضى يقرأ سطوره وقد لاح الغضب على وجهه.
انتهى من قراءة الخطاب فنظر إلىّ وقال بتهكم: «بقى حضرتك مجاوب كويس؟» فقلت: «أيوه يا بابا» فقال: «طيب انت ساقط».
وكان أبى قاسياً فى هذه الأمور ولم يكن يغفر لى سوء الحظ وكانت المسألة لا تعدو فى نظرى سوء الحظ لأننى أديت واجبى على الوجه الأكمل.