من أجمل الكلمات والهمسات والأصوات والهمهمات والدندنات والنغمات والإشارات تلك التى تصلك من القمر فإن كنت من محبيه أو أصدقائه أو متابعيه ومراقبيه والمتفائلين بضحكته ونوره، والذين يصيبهم الرعب والخوف لدرجة الهلع إن اختنق أو اختفى خلف سحابة حمقاء لتنطلق فتيات الريف ذوات القلوب الخضراء التى لم تتلوث بعد بآثار المدينة تغنى له وتدق على الدفوف بكلمات أجمل أغنية شعبية مصرية عرفها الفلكلور المصرى (يا بنات الحور سيبوا القمر يدور ويا بنات الحور سيبوا القمر ينور) ظناً منهن أن حوريات الجنة يحاولن السيطرة على حركة القمر والفوز بنوره وضيائه وهدوئه دون شريك، إن كنت من هؤلاء فلا بد أنك سألت نفسك يوماً عن حكايات القمر وكيف يرسلها لنا لنسمعها ونشاهد وجوه أبطالها وحياتهم وأفراحهم وانكساراتهم وعاداتهم وما يحبون أو يكرهون بل ويطلعنا على دفاترهم السرية التى يسجلون فيها مذكراتهم ويخفون بين أوراقها قطعاً من قلوبهم وقصص حبهم البريئة وشهادات إنجازاتهم فى العالم شديد القسوة الملىء بالمنافسات الشريفة وعكسها. ولأننى تمنيت أن أكون حكاية من حكايات القمر فقد رصدت ميلاده منذ اللحظة الأولى فى اليوم الأول له فى دورته الجديدة، فرأيت أجمل ضحكة لحبيب قد لا تتكرر فى العمر سوى مرة واحدة، وكان ضياؤها له بريق ولمعة يخشى الإنسان أن يلمسها فتتلوث ببصمة إصبعه أو يقترب منها بشفتيه فيظهر بخار أنفاسه على سطحها ويطفئ ذلك المشهد البديع، وفى الأيام القليلة التالية ازدادت الابتسامة وظهرت بوضوح كفرحة حبيب بلقاء انتظره كثيراً وكأنها ترحب بالأغلى والأقرب والأبقى والمتميز وصاحب الحظوة والطلة والدعوات السعيدة، واندهشت عندما اقترب القمر من منتصف دورته وأصبح كما يصفون ويتغزلون وينظمون الشعر ويسبحون مع النغمات من أجله (قمر ١٤) -اندهشت- لأننى رأيت بيتى وسكنى وأمنى وأمانى وحلمى الأكبر والدفء والحنان الذى بحثت عمرى عنه وقد رسمته أنامل فنان بارع على وجهه فظهر واضحاً للعيون، وقد تدرجت ألوان جدرانه بألوان ماء البحر بمختلف عمقها كما لو كانت درجات فى الهواء تتعلق عليها مشاريع العمر ورغباتى وكلماتى وكل ما أملك داخل القلب والعقل ووسطها، سطعت حروف تشكلت بحبات اللؤلؤ لأغلى الأسماء وأقربها للقلب، وفى ليلة قمر ١٤ حاولت ألا تغفو عيناى لتظل مع هذا الإبداع قبل أن ينتقل ليوم آخر وعمر جديد وملامح تحمل رقم النصف الثانى من عمره، إلا أن الحقيقة والواقع قالت كلمتها ودار القمر دورة جديدة وتغير الشكل واللون، وبدأ نصف الدائرة المختفى فى الوضوح بالتدريج، وكأن هناك ملاكاً صغيراً يطوف حوله، وكلما أكمل دورة اتسعت خطواته خارج الدائرة لتقترب من الاكتمال وترتسم علامات حزن على وجه القمر، وكانت حكاية أخرى من حكاياته تقول إنه اشتاق كثيراً للحبيب وعلامات جنونه وغيرته وكلمات تدليله ورعشة يديه ولقبه المفضل ومخارج حروف اسمه، التى تبدو مختلفة من فمه وبصوته عن أى نداء من آخرين واحتياجاته الإنسانية ومشاركته الطعام وإعداد أوراقه وملابسه وعطره المفضل وأغنيتهما المشتركة التى تؤكد كلماتها أنهما يتشابهان فى كل شىء حتى الملامح، وأنها تنادى الجميع باسمه وتتقاسم معه الهواء الذى يعيش عليه، ويبدو أن آخر الحكايات بدأت تصف حروفها وترسم أشخاصها باللون الفضى فقد وجدت الدائرة تتسع وتتسع والضوء ينحدر على سطح النيل، وتعجبت كيف يمكن لهذا الكائن الرقيق الصغير الذى لا تستمر دورة حياته أكثر من ثلاثين يوماً أن يمر ضوؤه من البر الشرقى إلى الغربى فكانت الإجابة التى قضت على أى فضول أن ما يحدث ويتكرر ويعاد وننتظره دون ملل كل شهر ما هو إلا حكايات الحب والشوق والحنين.. دامت حكاياتكم مع القمر سعيدة وذات نهايات أسعد.