أمال رأسه رغماً عنه، شعر بروحه تتحرر، وجسده يخف. أخذ ينظر لجسده ملقى على مقعد سيارة الشرطة، غير مصدق أنه هكذا فارق الحياة ولم يعد من بين الأحياء فيها. شاهد كيف يهرب قاتلوه فى ساعات الليل المظلمة على دراجة بخارية، سمعهم وهم يباركون بعضهم لنجاح مهمتهم بقتله. شاهد زملاءه يبكونه وشعر بالحنين الجارف لهم. تذكر زوجته وابنته التى لم تتجاوز العامين، فسارع ليكون بجوارهم لحظة تلقيهم خبر موته. وصل بيته، فوجد زوجته نائمة تحتضن طفلتهما، أيقظها رنين الهاتف، ترد وتصرخ باكية، ثم تلقى السماعة من يدها. جزع لحزنها، اقترب منها محاولاً طمأنتها عليه ولكنه فشل فى إشعارها بوجوده، مد يده نحوها ولكنها سارعت إلى الهاتف مجدداً تتصل بأبويها تخبرهم باستشهاده، سمعها تقول: «قتله إرهابيون وهو جالس فى سيارة الشرطة». شعر بالحزن مجدداً وهو عاجز عن حماية من أحبها وتزوجها منذ عامين. وعدها أن يكون لها الحماية من الأيام والناس، ولكن ها هو يفشل فى الوفاء بوعده. ينظر لابنته الغارقة فى نومها ويتذكر عشقها له ولعبها معه. ينظر لصورتهما معاً وهو يحملها، بينما تحتضن يداها وجهه ببراءة وعشق.. تُرى هل ستتذكره حينما تكبر وتذكر كم أحبها؟ يشعر بالألم، فيطأطئ رأسه وهو يتذكر استشهاده دونما قتال مع هؤلاء الخربة نفوسهم، قتلوه غدراً وهو جالس فى السيارة بعد أن دار لساعات على قدميه واطمأن لعدم وجود خطر فى المنطقة، فجلس يستريح من عناء واجب يعلم قيمته لوطن ومواطن، أخرج هاتفه الجوال ومر بناظريه على صوره الأخيرة مع زوجته وابنته. فكر أن يطلبهما ليسمع صوتهما.. فكر لحظات.. لا بد أنهما نائمتان. فجأة يسمع صوت دراجة بخارية تقترب ينظر تجاهها ولا يشعر إلا بطلقات الرصاص تنهال عليه. يفيق من حديث ذاته ليتابع إجراءات تشييع جثمانه ودفنه. شاهد المشيعين فى مسجد الشرطة فى الدراسة يتقدمهم وزير الداخلية الذى لم يلتق به يوماً. يذكر خطته التى كتبها عن كيفية تطوير المنظومة الأمنية وتوفير الحماية للضباط التى أرسلها لمكتب الوزير ولم يتلق عليها رداً. وحينما سأل عليها، قيل له: «إنت فاكر نفسك مين؟ ركز فى عملك والوزير عارف بيعمل إيه». ليته قرأها.. ها هى أمه تستند على ذراع صديقه وزميل دراسته، يبكيانه بشده. بينما يحاول أبوه التماسك أمام الكاميرات التى تلتقط اللقطات لجنازة الشهيد. يبصر زوجته فى سواد ملابسها عاجزة عن النزول من السيارة. انتهى كل شىء بسرعه وانصرف الجميع. عاد زملاؤه لأعمالهم وهم يفكرون من منهم سيأتى دوره بعده، وعادت عائلته بنار فراقه كل إلى بيته. وظل هو هائماً على وجهه لا يعلم أين يذهب، جلس على مقعد مقهى يصل لسمعه صوت نجوم برامج التوك شو فى التليفزيون وهم يعلنون خبر مقتله فى دقيقة واحدة، يرسمون على وجوههم ملامح الجدية والحزن، ويكتفون بإعلان: «مقتل ضابط شرطة أثناء أدائه مهام عمله على يد إرهابيين»، ويكمل النجوم قراءة الخبر ويجودون فيه بحصر عدد من مات من ضباط الشرطة خلال الشهر الماضى، فيعلنون عددهم! صار رقماً بين الأموات! لحق بمن سبقه من زملائه! تتسع ضحكته الساخرة، وهو يشاهد تحول الحديث فى قنوات «الشو» إلى مناحٍ أخرى، فتقدم «لميس» ديوان رصيف نمرة 5 لمدحت العدل، وتركز فى التقرير على صورها فى الحفل وحرص الحاضرين على التقاط الصور معها! ويلقى يسرى فودة مقدمته عن «سفينة نوح» التى يعيق بناءها الممارسات الأمنية!! يهز رأسه فى يأس قبل أن ينصرف، ويتساءل: لِمَ لم تصدر جمعيات حقوق الإنسان بياناً يدين مقتله؟ يختفى بعد أن يتيقن من الإجابة.. لقد صار رقماً.. فتعظيم سلام للأرقام.