الآن وقد ودعنا شهر رمضان المبارك الذى عشنا فى رحابه بمقالات أربع عن الخلفاء الراشدين، دعونا نقترب قليلاً ممن أنهى بحكمه وتوليه «إمارة المؤمنين» مرحلة الخلافة الراشدة، ليستتب له الأمر بعد أعوام الفتنة التى عصفت بالأمة الإسلامية لسنوات، وما زالت تطل علينا برأسها بين الفينة والأخرى، وكأن سنوات لم تمر وأحداثاً لم تقع ومحناً لم تضرب أركان الأمة.
ونقصد به بالطبع رأس الدولة الأموية معاوية بن أبى سفيان بن حرب وابن هند بنت عتبة.
ومعاوية واحد من أربعة لقبوا بدهاة العرب، وإليه يعود الفضل فى تأسيس الدولة الإسلامية وتثبيت أركانها وتوسيع رقعتها، لكنه فى ذات الوقت كان من رسخ حكم الفرد وأرسى دعائم الملك العضوض وجعله لبنيه وبنى أمية من بعده.
يفضل قطاع عريض ممن يطلق عليهم أهل السنة والجماعة، وبخاصة الجماعات السلفية، عدم التعرض بالتحليل السياسى والاجتماعى لسنوات الفتنة، التى بدأت بنهايات حكم الخليفة الراشد عثمان بن عفان وحتى استتب الأمر لمعاوية بن أبى سفيان، بل ويطلقون على عام تولية معاوية أمور المسلمين «عام الجماعة»، وهو أمر يحرمنا نحن جموع المسلمين بل ويحرم دارسى تاريخ الأمة الإسلامية من فهم أسباب ما حدث وتفسير ما شهدته تلك السنوات من وقائع جسام ما زالت آثارها باقية فى حياتنا اليومية.
وأنا بالطبع ممن يرفضون هذا التوجه ويعتبرونه سبباً مهماً من أسباب استمرار آثار تلك الفترة على حياتنا. لكن دعونا من هذا الحديث الذى سيأتى الوقت لإكماله وقراءته على النحو الذى أراه ولا أدعو أحداً لتبنيه.
ولنقرأ الآن بعضاً من صفات معاوية ومواقفه فى حياة النبى وبعده.
فقد قيل مما قيل عن معاوية أنه كان من كتّاب الوحى، وهو أمر لم يثبت تمام الثبوت، فهناك من رجح أنه كان يكتب الرسائل للنبى وليس الوحى، ويستدلون على ذلك بتأخر إسلام معاوية، ومن ثم فلا مجال أمامه ليكون من كتّاب الوحى، والأقرب أنه كان ممن يكتبون للنبى بسبب أنه كان ممن يجيدون القراءة والكتابة وهم على عهد النبى غير كثير.
لم يُذكر معاوية بن أبى سفيان فى حديث من أحاديث النبى إلا مرة واحدة، وهى مرة عميقة الدلالة، فقد روى الإمام أحمد فى مسنده عن بن عباس ما معناه: كنت ألعب مع الغلمان فمر سول الله صلى الله عليه وسلم علينا ثم قال لى: اذهب فادعُ لى معاوية، ولعله كان يحتاجه فى كتابة أمر ما، فذهب ابن عباس لينادى معاوية، فقيل له إنه يأكل فعاد إلى النبى فأخبره بأنه يأكل وسيأتى إليه بعد فراغه من الأكل، فقال لى الرسول: اذهب فادعه، فرجعت ثانية إلى معاوية فقيل لى إنه يأكل، فعدت إلى النبى وأخبرته أنه ما زال يأكل، فردنى ثالثة لأدعو له معاوية، فقيل لى: إنه يأكل، فعدت وأخبرت النبى بأنه ما زال يأكل فقال النبى فى الثالثة: لا أشبع الله له بطنه، فما شبع بعدها.
ومن المعروف أن معاوية كان نهماً فى الأكل وكان عظيم الإلية جاحظ العينين وكان يفرط فى الأكل حتى ترهل ولم يقو على الوقوف على المنبر فكان يخطب فى الناس وهو جالس فكان أول من جلس فى خطبة منبرية.
وكان شغف معاوية بالملبس كشغفه بالمأكل، فكان يسرف فى ملبسه، فلبس الحرير والذهب والجوهر، وكان يتأنق غاية التأنق حتى فى صدر الإسلام حين كان الزهد هو السائد.
ولم يُخفِ معاوية تلك الخصال عن نفسه، بل كان للفخر بها أقرب وهو القائل ذلك فى أكثر من موضع وبأكثر من صيغة، وفى إحدى خطبه المشهورة فى المدينة قال: إن أبا بكر رضى الله عنه لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقد أرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فقد نال منها ونالت منه، وأما أنا فمالت بى وملت بها وأنا ألبنها (لبن الراعى الغلام أى سقاه اللبن)، فهى أمى وأنا ابنها، فإن لم تجدونى خيركم فأنا خير لكم. وفى رواية أخرى: فأما أنا فقد تضجعتها «أى الدنيا» ظهراً لبطن وانقطعت إليها فانقطعت لى.
هكذا يتحدث معاوية فيما ثبت من الروايات عن نفسه.. وللحديث بقية.