السنن الإلهية هى القوانين الحاكمة للاجتماع البشرى، والسارية فى الكتاب الإلهى، وهى علم أصيل من علوم القرآن، وتجرى باطراد وثبات وعموم، فى حياة البشر، فلله فى الأفراد سنن، وفى الأمم سنن، ويخضع لها كل البشر وفق مقادير ثابتة لا تتغير ولا تتبدل: ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾.
فالأحداث أو النوازل التى تتعرض لها المجتمعات والدول والحضارات بل والأفراد يمكن فهمها وضبطها فى ضوء سنن الله والعوائد الإلهية، والآمال التى يرجوها أكثر الناس تديناً وصلاة وصوماً قد لا تتحقق، وفى نفس الوقت تتحقق للجاحد الفاسق، لأن السنن الكونية دقيقة منتظمة، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابى أحداً على حساب أحد ولا تجامل، ولا تتأثر بالأمانى والشعارات، (ولا يظلم ربك أحداً).
والمواقف الفاصلة التى خاضها أنبياء الله -عليهم السلام- مع أقوامهم شكلت أصولاً ضابطة لتقلبات الاجتماع البشرى عبر الزمن، ويمكن من خلال رصدها وتتبعها، واستقصائها وتحليلها وتوظيفها، فهم أسباب نهوض الحضارات، وطبيعة المؤثرات التى تغير توجه الاجتماع البشرى، ويمكن من خلالها أن نحيط علماً بعلوم ومعارف لا تخطر على البال.
ولذلك فالقرآن الكريم يحيل إلى تلك السنن الكونية فى التعليل للأحداث الكبرى التى نصر الله بها أقواماً دون أقوام، أو أمضى حدثاً، أو أنفذ مراداً، أو أهلك أمة، مع اتصاف تلك السنن بالثبات، ما يشكل ظاهرة قرآنية مهمة تعد عند التأمل من أصول الهداية القرآنية، بل قال فضيلة الدكتور «على جمعة» -عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف- فى كتابه: (سمات العصر) «إن هذا العلم قد يصل بنا إلى بناء علم أصول فقه الحضارة بعد أن وضع الإمام الشافعى علم أصول فقه النص الشريف».
ورغم أن القرآن الكريم سمى تلك العوائد بسنة الله، وأحال إليها، وعلل بها، ونبه إليها، إلا أنه لم يحدث عند المسلمين التفات إلى هذه السنن على نحو من التأصيل والجمع والدراسة والتوظيف إلا مؤخراً على يد الإمام «محمد عبده» -رحمه الله- الذى طالب بأن تكون هذه السنن علماً من العلوم المدونة، ليستمر ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، ويجب على الأمة فى مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله فى خلقه، كما فعلوا فى غير ذلك من العلوم والفنون.
ومن سنن الله فى الكون سنة التعارف، والتوازن، والتدافع، والتقارب، والتوفيق للمجتهد أياً ما كان دينه، وما زال القرآن يرد المسلمين إلى سنن الله الكونية، فالنواميس التى تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضى جزافاً، إنما هى تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغزاها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام، وإلى وجود حكمة كامنة وراء هذا النظام.
لقد خبت جذوة هذا العلم، ولم تنهض الأمة للعكوف على توسيعه وتعميقه، إلا أن علماء أفردوا له مؤلفات وكتبوا عنه، فكتب عنه الشيخ «محمد الصادق العرجون» كتاباً كاملاً عنوانه: (سنن الله فى المجتمع من خلال القرآن)، وكتب «محمد باقر الصدر» كتابه: (السنن التاريخية فى القرآن الكريم)، وكتب الدكتور «مصطفى الشكعة» كتابه: (السنن الإلهية فى رحاب القرآن)، وكتب الدكتور «مجدى عاشور» فى كتابه: (السنن الإلهية فى الأمم والأفراد فى القرآن الكريم)، وغير ذلك مما أشار إليه الدكتور «أسامة الأزهرى» فى كتابه (المدخل إلى أصول التفسير)، وفى المقال القادم نواصل الحديث حول أهم السنن الكونية القرآنية -إن شاء الله-.