أصبح الدين يطبق فى بلد الأزهر الشريف فى شعائره فقط، فحق على الكثير قوله تعالى «يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً» النساء (142)، إذ لو خالط الدين بحق قلوبهم ونفوسهم ما وأدوا كل خلق حسن، فصارت أعمالهم هباء منثوراً.
ولأن سنام الدين هو الأخلاق، فقد امتدح الله نبيه الكريم بقوله تعالى «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» القلم (4)، ومع ذلك فقد ضيع الناس الأخلاق فيما بينهم ومع غيرهم، فعلموا هديه وسمعوه ولكنهم تناسوه ولم يطبقوه وحرّفوا الكلم عن مواضعه، وتجادلوا فيما بينهم حول علة خلق الله لعباده فى هذه الدنيا، وهل خَلَقَنَا اللهُ لِلعِبَادَاتِ فَقَطْ، وتوقفوا على أن مهمتنا فى هذه الحياة تأدية العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج فقط!!! وذلك إعمالاً لقول الحق سبحانه وتعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» الذاريات (56) فهموا العبادة على أنها تأدية فروض فقط، وما الفروض فى القرآن والسنة إلا 5% من الشريعة تقريباً، أما الباقى فأخلاق ومعاملات، فجهلوا أو تجاهلوا أن حسن الخلق عبادة، وأن العمل وإعمار الأرض عبادة، وإعمارها لن يكون إلا بعلم قد امتدح الله جل وعلا حامليه، فقال تعالى: « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» فاطر (28)، فإن أكثر الناس علماً بالله وخشية له هم العلماء، وأكد رسولنا الكريم على فضل العالِم على العابد حيث قال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبوالدرداء «من سلك طريقاً يبتغى فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له مَن فى السماوات ومَن فى الأرض حتى الحيتان فى الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»، فأين الوعاظ وعلماء الدين من هذا الهدى الشريف، ألم يقرأوا قوله تعالى «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» فصلت (53)، هذه الآيات لا يكشفها إلا العلم، فما حال العلم فى مجتمعنا الآن؟!
غاب عن الناس وعن الوعاظ ما دعاهم الله إليه من التفكر والتدبر فى كل شىء، ومن هذا على سبيل المثال أنهم لم يتفكروا فى أنّ أقصى وقت لأداء فرائض الصلوات اليومية لا يتجاوز ساعة واحدة، أى 5% من مجموع ساعات اليوم، وصيام شهر رمضان يعادل 8.5% من مجموع شهور السنة، والزكاة يؤتيها من يملك النصاب فقط مرة كل عام، وكذلك الحج مرة فى العمر لمن استطاع إليه سبيلاً، فالعبادة ليست تأدية تلك الفرائض فقط، ولكنها إن أديت حُسن أدائها، وفُهم منها معناها ومغزاها لن يكون مؤديها حق أدائها سيئ الخلق، فهذه العبادات هى الطريق الممهد لحسن الخلق، فإن لم يَحسُن بها الخلق، فالله أعلم هل تقبل أم لا؟ والأحاديث فى ذلك كثيرة، إذ كيف يقف الإنسان فى صلاته مناجياً ربه ويقرأ بسورة الفاتحة فى كل ركعة مبتدئاً بـ«الحمد لله»، ثم يسلم من صلاته وكأن لم يقرأها فيكون ساخطاً ناقماً غير راضٍ بأى شىء، فيحقد ويحسد ومن هذا الباب يفتح لنفسه وساوس النفس والشيطان فيستحل المحرمات وما ليس من حقه، وكيف به يقرأ «الرحمن الرحيم»، ثم يخرج من صلاته ولم تؤثر فيه فيظل فظاً غليظاً فى معاملاته مع خلق الله فيقتل ويسفك الدماء ويستحل كل ما حرمه الله باسم الحفاظ على شعائر الدين، وكيف يقرأ «إياك نعبد وإياك نستعين»، ثم يصير عبداً لهواه وشهواته ويستعين ويضع آماله ويعلقها على غير الله، وكيف يطلب من الله فى كل صلاة «اهدنا الصراط المستقيم»، ثم يخرج من الصلاة ليفسد فى الأرض.
وما فائدة زكاة يؤديها سيئ الخلق الفاسد المفسد مكتسب المال من المحرمات هل زكاته ستطهر ماله الذى اكتسبه؟ أم ستصلح المجتمع المجنى عليه بسبب فساده؟
هل الصوم صوم عن الطعام والشراب فقط؟ أم أنه تدريب للنفس على حسن الخلق، والصبر، وضبط النفس عن كل الشهوات الحلال، فما بالنا بارتكاب ما حرمه الله من كذب وغيبة ونميمة وسرقة... إلخ أثناء الصيام، فرب صائم لم يجن من صومه إلا الجوع والعطش.
يذهبون إلى الحج فيرجمون إبليس بالحصى، ولم يعلموا أن هذا الرجم هو رمز لما يجب عليهم من الوقوف والجهاد أمام كل باطل نابع من أنفسهم أو من غيرهم راجمين له.
مما سبق حقيقٌ علينا أن نُقر ونقول لكل فرد فى مجتمعنا -لعل الله أن يُصلح به- أنه فى عبادة عندما يساعد الآخرين، ويطعم الـمسكين، ويصل رحمه ويبر والديه، ويؤدى الأمانة وحقوق الآخرين، ويحافظ على العهد، ويتحلى بالصدق، وعندما يأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين، وعندما يحافظ على النظافة فى كل مكان، ويكف لسانه عن لغو الكلام وبذيئه، ويتحلى بالحياء، وعندما يبتسم فى وجوه الناس، ويكون حكيماً فى تعامله مع أهله ومع الناس، وعندما يقدر على كظم غيظه، ويكون حليماً صبوراً، متواضعاً، سمحاً فى بيعه وشرائه وكل معاملاته، وعندما يغض بصره ويحتاط من الخلوة، وعندما يرفض الرشوة وأكل المال الحرام، وعندما يتقن عمله ويحسنه.
فهذه العبادات التعاملية هى التى تجعل الآخرين يدخلون فى دين الله أفواجاً، فالدِّينُ جوهر وشعائر ومعاملة، وعندما يدرك الناس ذلك سيرتقى خلقهم وسلوكهم ويتغير مجتمعهم فيسودون بخُلُقهم وعلمهم وعملهم، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم... اللهم اجعلنا كما تحب وترضى وارزقنا برحمتك حسن الختام.