رائحة الحرب تقترب من المنطقة، وتتبادل الأطراف المنخرطة فى الصراع الاتهامات، ويسعى كل طرف إلى تحميل خصومه المسئولية عن تبدد الاستقرار وزيادة حدة التوتر، ويحبس الجمهور أنفاسه عاجزاً عن توقع المآلات السوداء فى حال اندلع القتال.
لم تعرف هذه المنطقة الراحة منذ منتصف القرن الفائت، فمن حرب فلسطين، إلى العدوان الثلاثى على مصر، إلى حرب الجزائر ضد فرنسا، إلى حرب اليمن، فهزيمة السابع والستين، فأكتوبر 73، ثم اندلاع الثورة الإيرانية، وفى أعقابها الحرب العراقية - الإيرانية، وغزو لبنان، فغزو الكويت، وتحريرها، وغزو العراق، والعدوان على لبنان، واندلاع الانتفاضات العربية، وانهيار عدد من الأنظمة والدول، وصولاً إلى الاختراق الذى حققه تنظيم «داعش»، والذى لم تهدأ تفاعلاته حتى اليوم.
تلك منطقة ذات طبيعة استراتيجية خاصة، لديها موقع مهم ومؤثر، وتحظى بثروات طبيعية ضخمة، فهل تكفى هذه العوامل لتبرير العيش دائماً على إيقاع أصوات الصواريخ؟
لماذا لا تعيش هذه المنطقة سلاماً يؤمّن لها قدراً من الاستقرار والإنجاز، ينقل أبناءها إلى مراتب أكثر تقدماً فى مستويات المعيشة؟
هل قدر هذه المنطقة محسوم بالحرب والاستهداف؟ وما مدى مسئولية حكوماتها عما تعيشه من اضطراب؟
ثمة عدد من المنظمات الدولية المرموقة التى اجتهدت فى محاولة تصنيف الدول من جانب مدى رشد الحكم فيها، مثل تصنيف «دليل حكم القانون»، والمؤشر الصادر عن البنك الدولى بعنوان «دليل الحكم»، والمؤشر العالمى السنوى الذى يُعرف باسم «مؤشر التقدم الاجتماعى»، وكلها تجمع الإحصاءات المتوافرة للعامة، وتصنف الدول بناء على أدائها من خلال معايير مختلفة يمكن من خلالها تحديد طبيعة الحكم الرشيد، الذى يمكن أن يضمن للدولة سيادتها ولترابها الوطنى منعته ولمواطنيها الاستقرار والرفاهية.
من بين الدول التى تظهر دائماً فى مؤشرات الحكم الرشيد، بحسب هذه المنظمات، كل من الدنمارك، ونيوزيلندا، وكندا، واليابان، وبتسوانا، وتشيلى.
وقبل أن تأخذك المفاجأة لوجود دولة أفريقية وأخرى فى أمريكا اللاتينية ضمن تلك البلدان، عليك أن تعرف المؤشرات التى استندت إليها تلك المؤسسات البحثية العالمية المهمة والمعتبرة، والتى بمقتضاها تم منح حكومات تلك البلدان صفة «رشيدة».
فثمة مؤشرات تخص السياسات الاجتماعية المتقدمة، ومستوى الثقة فى الحكومة، وطريقة إدارة السياسة الخارجية، والنظام القضائى الفعّال، وقد حققت فيها تلك البلدان تقدماً مطرداً.
سيمكننا أن نختلف حول طبيعة تلك المؤشرات، والمنهجية التى تم اتباعها لقياسها على نحو أمين، لكننا نعرف أن تلك الدول بالفعل استطاعت أن تجنب شعوبها الويلات التى تعرفها منطقتنا، وأن تحافظ على درجة من التماسك والإنجاز قياسية، وأن تحظى بمكانة واحترام دوليين.
تتفاوت التحديات التى تواجهها كل دولة من تلك الدول، وربما يخوض بعضها صراعات، لكنها حافظت على إرادة سياسية مكّنتها من إدارة تلك المخاطر، بشكل فعال، حقق لمواطنيها الرفاه والأمن والاستقرار.
ربما لا توجد دولة فى العالم لا تعرف المشكلات أو تخوض الصراعات أو تواجه التحديات؛ ومع ذلك فإن درجة الرشد التى ينطوى عليها الحكم يمكن أن تكون العامل الأهم فى حسم تلك المشكلات وتجاوزها، بالشكل الذى يُبقى الدولة آمنة مستقرة ومواطنيها فى رفاه.
الأمر يبدو مختلفاً فى منطقتنا، ومع التسليم بأنها منطقة ذات وضع خاص، على صعد التنمية والأمن والتطور الديمقراطى، فإن أداء الحكومات «غير الرشيدة» يبدو أهم عوامل الخلل والصراع، وهو خلل تدفع أثمانه الشعوب.
يرتاح البعض إلى تبرير المشكلات والصعوبات التى تعانيها بعض الدول والشعوب عبر ردها إلى طبيعة النظام العالمى، أو شره القوى الاستعمارية المسيطرة، أو إلى مواقف أخلاقية وقيمية تتخذها بعض الحكومات ما يؤدى إلى تكاليف وأثمان باهظة تدفعها هى وشعوبها، وهى تبريرات واهية لا يمكن أن تصمد ضمن أى تحليل رصين.
ويسعى البعض إلى رد الخلافات والصدامات والإخفاقات التى تعانيها الشعوب والدول فى المنطقة إلى مصادر الهوية القومية أو الدينية، وثمة من يشيع أيضاً أن ذلك الاستهداف قدرى ومحتوم، عوضاً عن هؤلاء الذين يحملون الشعوب المسئولية عن تردى الأوضاع العمومية باعتبار أن «الحكومات إفراز شعوب».
إن استعراض التطورات التاريخية التى جرت فى مناطق مختلفة فى العالم أفضى إلى عدد من الخلاصات التى يصعب جداً دحضها فى هذا السياق؛ ومن بين تلك الخلاصات ما يلى:
أولاً: لا يمكن تحميل مسئولية العوار الذى تعانيه دولة إلى الشعب، استناداً إلى تصورات عن أنماط أدائه، أو سلوكه، أو عيوبه، أو عدم استعداده للتطور، أو تركيبه الجينى، أو تاريخه الوطنى. ورغم أن الأوضاع الجغرافية والسياسية والتاريخية، وحالة الموارد العمومية، وميراث السلوك الاجتماعى السائد، بل والطقس واللغة، كلها عوامل يمكن أن تؤثر فى سوية الشعوب وأدائها العمومى، فإن التاريخ أثبت أن الحكم الرشيد يمكن أن يتجاوز أى نواقص ناتجة عن هذه العوامل، بل ويمكن أن يحولها إلى عوامل دفع إيجابية. وفى أمثلة رواندا، وسنغافورة، والصين، وكوريا الجنوبية، والبرازيل، وتركيا، وماليزيا، وغيرها خير دليل على ذلك؛ فقد كانت تلك دولاً وأمماً وشعوباً تعانى من التراجع الحاد فى أوقات محددة، وتم تفسير ذلك بأسباب خاصة بكل شعب، ثم ما لبثت أن تجاوزت عثراتها، وحققت الاختراقات العظيمة، وتبوأت مراكز متقدمة بين الأمم، لمجرد امتلاكها حكومات رشيدة.
ثانياً: إن التوترات والحروب والنزاعات والفقر وتردى الخدمات وتراجع جودة الحياة ليست قدراً حتمياً فى منطقتنا، ولكنها نتائج سياسات إدارة غير رشيدة. على سبيل المثال، علينا أن نستعرض السلوك الإيرانى لنعرف أن طهران بنزعتها الطائفية، وحسها التعبوى، ورغباتها التوسعية، وأحلامها فى الهيمنة والسيطرة، وتدخلاتها فى الشئون الداخلية لعدد من بلدان المنطقة كانت وراء قدر كبير من التوتر الحادث حالياً. وعلينا أيضاً أن نعرف أن عدداً كبيراً من الكوارث التى شهدتها المنطقة حدث بسبب أنماط أداء سيئة وحادة وغير مدروسة من بعض القادة والحكومات.
ثالثاً: إن دولاً مثل اليابان وكندا والدنمارك، والتى ترد ضمن أكثر دول العالم تمتعاً بالحكم الرشيد، لا تفرط فى مصالحها ولا تمتهن خصوصياتها ولا تضحى بكرامتها، ومع ذلك فإن أكبر القوى المهيمنة فى العالم لا تفكر فى العبث معها أو الجور على مصالحها.