تقرر المواثيق الدولية والدساتير الوطنية الحق فى العمل لكل مواطن، سواء كان رجلاً أو امرأة. غير أن كفالة «حق المرأة فى العمل» ليست كافية بمفردها، وإنما ينبغى كذلك مراعاة طبيعة المرأة البيولوجية وواجباتها الأسرية، وتمكينها من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل. ولذلك، تنص المادة الحادية عشرة الفقرة الثالثة من الدستور المصرى لعام 2014، على أن «تلتزم الدولة بحماية المرأة من كل أشكال العنف، وتكفل تمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل».
وفى أول تطبيق لهذا النص الدستورى، وبعد أقل من أسبوعين على إقرار الدستور والعمل به، وتحديداً فى الثامن والعشرين من يناير 2014م، قضت محكمة القضاء الإدارى بكفر الشيخ برئاسة المستشار الدكتور عبدالوهاب خفاجى بإلغاء قرار لوكيلة وزارة الصحة بالمحافظة يُلزم إحدى مشرفات التمريض بالعمل فى النوبتجية الليلية، ورفض إعفائها من النوبتجيات، رغم أن زوجها كفيف ويحتاج إلى رعاية. وقد استندت المحكمة فى قضائها إلى المادة الحادية عشرة من الدستور، مؤكدة أن الحكم الوارد فيها بتمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل ليس تمييزاً لمصلحة المرأة تتقدم به على الرجل، بل لحكمة تغياها المشرع الدستورى، تمثلت فى أن المرأة تتحمل أعباء واجبات أسرتها بجميع دقائقها فى مشقة وعناء، لا يستطيع الرجل تحملها، ومن ثم فيجب ألا يكون هذا الواجب الأسرى حائلاً بينها وبين سعيها الطموح فى أداء العمل، بما لا يخل بواجبات الأسرة على نحو ينال من تلك الواجبات أو ينقصها من حقوقها.
وفى تسبيب بديع، وبعبارات بليغة، تقول المحكمة إن «المشرع الدستورى ألزم الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف، بينما كفل للمرأة تمكينها من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل، وما من ريب فى أن المغايرة فى العبارة بين الالتزام والكفالة تؤدى إلى المغايرة فى الحكم، فالتزام الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف هو التزام قابل للتطبيق بذاته دونما حاجة لتدخل المشرع العادى، بينما كفالة الدولة لحق من حقوق المرأة، وعلى قمتها تمكينها من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل ليس قابلاً للتطبيق بذاته، وإنما يحتاج إلى تدخّل المشرع العادى لوضع حدود لتلك الكفالة وتنظيمها لاحتوائها على حقين متقابلين، هما حق المرأة من ناحية، وحق الجهة التى تعمل بها من ناحية أخرى ولكل من الحقين واجباته التى يجب رسم ضوابطها وموجباتها، ليبين حدود تلك الكفالة على نحو يوازن فيه بين حقين متقابلين، أحدهما خاص بالمرأة والآخر عام بطبيعة المرفق ذاته، وطبيعة الأعمال التى يقوم عليها ذلك المرفق. ومن حيث إنه إزاء هذا الفراغ التشريعى لوضع حدود وضوابط كفالة الدولة لتمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل، فإن القاضى الإدارى الحارس الأمين على الحقوق والحريات الأساسية لا يكون مغلول السلطة فى تقدير الاعتبارات التى قد تقوم سنداً له، بل عليه أن ينزل رقابة المشروعية الحقة فى توازن دقيق لا إفراط ولا تفريط فيه بين حق المرأة فى القيام بواجباتها الأسرية، لاسيما إذا كان أحد أفرادها من ذوى الاحتياجات الخاصة وحقه فى الرعاية، حفاظاً على حياته من الخطر وهى مصلحة اجتماعية، وبين الاعتبارات التى تقتضيها متطلبات العمل، فكل ذلك أمور يتعين أن تقدّرها بقدرها، نزولاً على حكم القاعدة الأصولية التى تقضى بترتيب المصالح على ضوء مدارجها، وأن دور القاضى فى ظل هذا الفراغ التشريعى من جانب المشرع العادى هو تكريس للدور الخلاق المحجوز له ليبتكر من الحلول ما يتلاءم وصون الحقوق والحريات المشروعة، ومن ثم فإن إغناء الاجتهاد القضائى فى القانون الإدارى ليس مقصوداً لذاته، بل لحماية الحقوق المعتدى عليها من جانب الجهات الإدارية». بهذه الأحكام الرائدة، يقف القضاء المصرى حارساً للحقوق والحريات، نصيراً للمرأة فى كفاحها ومسيرتها الناصعة، مؤكداً أنه أحد عناصر القوة الناعمة لمصرنا الحبيبة. والله من وراء القصد..