فى السنة السابعة للهجرة، وبعد فتح خيبر، أوفد النبى صلى الله عليه وسلم ستة من أصحابه لملوك ذلك الزمان يدعوهم للإسلام، وكان حاطب بن أبى بلتعة موفد النبى إلى المقوقس عظيم القبط. حمل ابن أبى بلتعة الرسالة، وولى وجهه شطر الإسكندرية، حيث قصر المقوقس، يسبقه الشوق لبلوغ مصر، ويحدوه الأمل فى أن يوفَّق فى مهمته، فيهتدى المقوقس لرسالة النبى ويدخل من بعده القبط فى دين الإسلام.
وحين بلغ بن أبى بلتعة قصر المقوقس فى الإسكندرية كانت فتاة صعيدية بيضاء جعدة جميلة تُدعى مارية بنت شمعون وُلدت لأب قبطى من صعيد مصر وأم مسيحية رومية فى قرية تُدعى «حفن» من كورة «أنصنا» الواقعة على الضفة الشرقية للنيل تجاه الأشمونين.
كانت مارية فى قصر المقوقس وقد سمعت بظهور نبى فى جزيرة العرب يدعو إلى دين سماوى جديد. وحين وصل ابن أبى بلتعة موفداً من النبى الجديد للقاء المقوقس كانت مارية وغيرها من سكان القصر ينتظرون ما حمله الرسول ويترقبون رد المقوقس عليه وموقفه تجاه النبى الجديد. وتقدم ابن أبى بلتعة للمقوقس ليسلم رسالة النبى التى جاء فيها: من محمد بن عبدالله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط، ثم تلا من القرآن: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».
قرأ المقوقس الرسالة، ثم طواها فى عناية وتوقير ووضعها فى «حق من عاج» دفعه إلى واحدة من جواريه. ثم التفت إلى حاطب ابن أبى بلتعة يسأله عن النبى. بعدها فكر المقوقس ملياً، ثم قال لحاطب: قد كنت أعلم أن نبياً قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام وهناك مخرج الأنبياء، فأراه قد خرج من أرض العرب.
ثم أضاف وهو ينظر من حوله ثم يعود بنظره لابن أبى بلتعة: ولكن القبط لا تطاوعنى.
ثم دعا بكاتبه فأملى عليه رده على رسالة النبى: «أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقى وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم، وكسوة، ومطية لتركبها والسلام عليك».
لم تكن تعلم الفتاة الصعيدية الجميلة التى اعتادت الحياة الرغدة على ضفاف النيل حيث وُلدت، أو قرب شواطئ الإسكندرية حيث تقيم، أنها وأختها «سيرين» ستكونان ضمن هدية المقوقس للنبى الجديد الذى ظهر فى بلاد العرب، وأنها ستُحمل إلى حيث تعيش بعيداً عن وطنها فى بيئة لم تألفها وبين أناس لا تعرفهم.
وأذن المقوقس لموفد النبى حاطب بن أبى بلتعة بالرحيل وفى صحبته مارية وأختها سيرين وعبد خصى وألف مثقال ذهب وعشرون ثوباً ليناً من نسيج مصر وبغلة شهباء «دلدل» وجانب من عسل «بنها» وبعض العود والند والمسك.
ودّعت مارية تراب مصر وتعلّق بصرها بما ألفته من مشاهد ومشاهدات الطفولة فى الصعيد والصبا فى الإسكندرية، وشغل تفكيرها قادم أيامها فى كنف هذا النبى السيد. وفى الطريق إلى المدينة كانت مارية وأختها سيرين تشعران ببعض الوحشة لفراق الوطن وبعض القلق لما تحمله لهما حياتهما الجديدة وبعض الترقب لما سيكون عليه حالهما فى كنف النبى.
وشعر بن أبى بلتعة بما تشعر به الفتاتان، فراح يحدثهما عن بلاد العرب وما يحفظه من روايات عن مكة والمدينة، وأخذ يتحدث، بجلال الإيمان بالإسلام وجمال المحبة لنبيه، عن خصال الرسول الحميدة وصفاته الكريمة، فترك حديثه أثراً فى نفسيهما حتى أسلمتا قبل بلوغ المدينة.
وبلغ الركب المدينة المنورة فى السنة السابعة من الهجرة بُعيد عودة النبى صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعد أن عقد الهدنة مع قريش. وتلقى النبى كتاب المقوقس وقرأه وقبل هديته، ثم التقى الفتاتين فأعجب بمارية واكتفى بها، ووهب أختها سيرين لشاعره حسان بن ثابت.
وأنزل النبى «سريته» مارية بمنزل لحارثة بن النعمان الأنصارى قرب المسجد، وطار الخبر إلى دور النبى، وبلغ زوجاته أن شابة مصرية حلوة جعدة الشعر جذابة الملامح قد جاءت من أرض النيل هدية للنبى.
ولم يكن الخبر ليمرّ هيناً على نساء النبى وفى مقدمتهن الزوجة الأقرب إلى قلبه عائشة التى راحت ترقب فى كثير من القلق مظاهر اهتمام النبى بتلك الوافدة الجميلة، وقد أثار جزعها أن ترى زوجها وحبيبها يُكثر التردد على مارية ويمكث لديها طويلاً، حيث كان صلى الله عليه وسلم يقضى عند مارية عامة الليل والنهار فى ساعات فراغه.
وكانت مارية تسمع وتتابع فيملأها القلق من زوجات النبى، وبالذات من عائشة، لكن تقدير النبى لها وكلفه بها هوّنا عليها قلقها، خاصة بعد أن أرضاها بأن ضرب عليها الحجاب شأنها شأن أمهات المؤمنين. وبقيت مارية شهوراً على هذا الحال وهى تُمنى نفسها بأن يتكرر معها ما تكرر مع جدتها هاجر التى أُهديت لنبى الله إبراهيم، فولدت له ولده إسماعيل، فأصبحت جدة العرب جميعاً، وحفظ الله سيرتها بأن وهبها بئراً لا تنضب ليُسقى منها الحجيج، وجعل سعيها بين الصفا والمروة من شعائر الحج عند العرب قبل الإسلام وبعده.
كانت مارية تتمنى أن يهبها الله ولداً من النبى، وكانت نساء النبى اللائى تزوجهن بعد أم المؤمنين خديجة قد حُرمن من الإنجاب، والرسول المكلوم بفقد ابنيه عبدالله والقاسم وبناته الثلاث رقية وأم كلثوم ومن بعدهما زينب، يتمنى أن يمنَّ الله عليه بالولد. وبعد نحو عام من دخول النبى بها تشعر مارية ببوادر الحمل، فتكذّب نفسها فى البداية، ثم تسر لأختها سيرين بما تشعر به، فتؤكد لها سيرين أنها حامل دون شك، ويكاد قلب مارية يطير من الفرحة، وتنتظر قدوم النبى عليها لتخبره بما تشعر، فيتهلل وجه النبى وقد أيقن بخبرته أنها حامل، فهنأها ورفع وجهه إلى السماء شاكراً لخالقه ذاك العزاء الجميل.
ويشيع فى المدينة أن النبى ينتظر مولوداً، فيفرح المؤمنون وتشعر نساء النبى بالألم، فها هى تلك المصرية التى لم يمضِ عليها فى المدينة سوى عام واحد قد خصّها الله بالحمل من النبى.
وتلد مارية ولداً يستقبله النبى بالبشر والفرحة، ويسميه إبراهيم تيمناً بجده أبى الأنبياء، ويحمله فرحاً إلى أم المؤمنين عائشة التى كادت أن تبكى مما تجد، لكنها أمسكت دموعها، فأدرك النبى ما تكابد، فانصرف بولده وهو يرثى لعائشة. وبعد أقل من عامين يسترد الله وديعته، فتحزن مارية، ويبكى النبى فقدَ ولده الذى يوارى جثمانه الثرى فى البقيع، ثم يرحل النبى بعد رحيل ابنه بقليل، وتبقى الحسرة والألم فى نفس مارية التى اعتزلت الناس وكانت لا تخرج إلا لزيارة قبر النبى فى المسجد أو زيارة قبر ابنها فى البقيع.
وبعدها بنحو ست سنوات ترحل أم إبراهيم مارية القبطية ويخرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليحشد الناس لجنازتها ثم يصلى عليها وتُدفن بالبقيع. لكن سيرتها تبقى خالدة بغضّ النظر عن الاختلاف فى اعتبارها أماً من أمهات المؤمنين أم لا.
وتُفتح مصر بعد رحيلها، ويحمل عمرو بن العاص، ضمن ما يحمل فى حواراته مع سفراء المقوقس، وصية النبى بأهل مصر، حيث قال: إنكم ستفتحون مصر وهى أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم نسباً (يعنى هاجر)، وصهراً (يعنى مارية).
وبعد الفتح يكلف الصحابى عبادة بن الصامت بملاحقة فلول الرومان فى صعيد مصر، فيفعل حتى يصل إلى المنيا، فيبلغ قرية يخبرونه أنها مسقط رأس مارية رضى الله عنها، فيقيم فيها مسجداً ويقرر العيش فيها، ويتوارث المصريون الرواية، فتصبح القرية هى قرية الشيخ عبادة نسبة إلى الصحابى الجليل عبادة بن الصامت، وتقع بمركز ملوى بمحافظة المنيا.