من دولة ممنوع على الجماهير دخول الملاعب فيها تخوفاً من الشغب وغياب النظام القادر على إحكام السيطرة على الأفعال الصبيانية والفردية التى يقوم بها البعض إما استجابة لحماس مبالغ فيه أثناء التشجيع أو رغبة فى زعزعة استقرار الدولة، إلى دولة تستضيف أكبر بطولة قارية من أهم بطولات العالم، وتستهلها بمباراة حضرها أكثر من ٧٠ ألف متفرج يوم الجمعة الماضى.
ذلك هو النموذج الذى يمكن أن نتحدث عنه فى عبقرية الإدارة، والتفكير المتقن الذى لم يدع شيئاً للصدفة، والتنفيذ المنضبط الذى تم «كما يقول الكتاب».
تلك هى مصر اليوم، لا يوجد تحدٍ أكبر من إرادة قيادتها، ولا جهود حكومتها، ولا إصرار شعبها.
تلك هى مصر التى كانت غائبة لمدة عقود فى براثن البيروقراطية، وأعماق الفكر الرجعى، والتخطيط الصورى الذى ينتهى بمجرد تدوينه على الورق، فيدخل إلى الدرج ولا يخرج منه إلا إذا لزم اقتصاص جزء منه لخطاب جماهيرى أو إعلامى لأحد المسئولين، أو ليقتبس منه تصريحات لجريدة أو موقع إخبارى معين.
هذه الدولة الرجعية انتهت، وبدأ عصر جديد لدولة حديثة تبحث عن المشاكل لتواجهها، دون تخفٍ، وتضع حداً للاختلالات بحلول حقيقية، دون سياسة المسكنات، وتتحرك بشكل ممنهج بعيداً عن العشوائية فى كل شىء.
دولة لديها رؤية حقيقية للتعامل مع كل الملفات فى الداخل أو الخارج، فى الاقتصاد أو الرياضة أو الأمن أو الفن والترفيه.
وهذه الرؤية استطاعت أن تظهر للجميع تناغم التنفيذ فى الخطط المختلفة والحيوية الواضحة التى يتسم بها الواقع المصرى الآن، فى ظل وجود قيادة تعمل على مدار الساعة لخدمة أهداف الحلم المصرى فى التقدم والتنمية والازدهار.
تجربة نجاح مصر فى تنظيم كأس الأمم أذهلتنى بكل المقاييس، بداية من تحدى الزمن الذى كان العنصر الأهم، حيث تم التخطيط والإعداد والتنفيذ لاستقبال هذا الحدث الدولى المهم خلال ٥ أشهر فقط، وبالتحديد منذ إعلان الاتحاد الأفريقى لكرة القدم اختيار مصر لتنظيم البطولة فى ٨ يناير ٢٠١٩، بدلاً من الكاميرون، التى حاولت أن تستعد لتنظيم هذه البطولة خلال عدة سنوات ولكنها لم تنجح، ولكن نجحت مصر فى استضافة هذه البطولة خلال عدة أشهر لأن القيادة الحالية اعتدنا منها «إن مفيش مستحيل».
مروراً بتجهيز الملاعب لتستقبل هذه البطولة القارية خلال وقت قياسى وظهورها بهذا المظهر الرائع الذى شكر فيه الجميع حتى الآن، ومروراً كذلك بالنظام شديد العبقرية الذى وضعته الدولة ونفذته لحجز تذاكر المباريات وإحكام السيطرة على دخول الملاعب حتى تعرف من يدخل للاستاد، وأين يجلس.
وبهذا النظام المتطور حققت الدولة أكثر من هدف؛ الأول: مزيد من السهولة فى حجز التذاكر إلكترونياً بعيداً عن الازدحام والتخبط أمام منافذ بيع التذاكر سابقاً.
الثانى: القضاء على السوق السوداء التى سيطرت على تداولات تذاكر المباريات خلال الفترة الماضية، خاصة بطولة أمم أفريقيا ٢٠٠٦.
الثالث: إحكام السيطرة على محاولات الشغب التى يفعلها البعض إما مندفعاً بالحماس بطريقة خاطئة أو متعمداً محاولاً إحراج الدولة.
الرابع: توافر قاعدة بيانات محدَّثة لعشرات بل مئات الآلاف من حاجزى تذاكر المباريات، بما يدعم خطط الدولة، خاصة فى المحافل الرياضية المختلفة، والمناسبات القومية الكبيرة.
وفى تقديرى أن نظام «تذكرتى» لا بد أن يكون نموذجاً يتم محاكاته فى تعامل جميع المؤسسات مع الأحداث الجماهيرية، سواء كانت مؤسسات حكومية أو خاصة، باعتبار أن هذا النظام يتوافق مع متطلبات العصر الحالى، ويدعم بشكل كبير الشمول المالى، من خلال التحصيل الإلكترونى لقيمة تذاكر المباريات، ويحارب القطاع غير الرسمى والممارسات المشبوهة التى دائماً ما تقترن بظهور السوق السوداء.
أذهلنى كذلك حفل الافتتاح الذى وصفه الأشقاء العرب والأفارقة بالأسطورى، فضلاً عن الإعلام العالمى الذى تناول الحدث بشغف كبير، فهذه «الجارديان» البريطانية تقول إن الحفل بدا «مدهشاً»، فى ظل أجواء مظلمة وأرض تضىء بثلاثة أهرامات ضخمة، بينما ذكرت «بى بى سى» أن الحفل كان مذهلاً، خاصة مع الفنون الاستعراضية القوية، فيما قالت «أس» الإسبانية إن الحفل كان مبهراً ويليق بالنسخة التاريخية للبطولة التى تشهد مشاركة ٢٤ منتخباً لأول مرة.
هكذا يتحدث عنا العالم، وهكذا ينبغى أن نتحدث عن أنفسنا، ونسعد بما أنجزته بلادنا، ونستعد جيداً لما هو قادم، والقادم أفضل بإذن الله.