لا يركب الراكب سيارة أو قطاراً فى بر مصر، إلاَّ ويلفته جوار غريب وخليط عجيب، بالتجاور إلى حد الالتصاق، بين فرط الثروة والترف والنعيم، وبين فرط البؤس والفاقة.. بين جمال وأناقة، يقابلها على مرمى حجر عشش وأوكار وعشوائيات، فى قبح ودمامة، ويكفى المقبل إلى القاهرة أن ينظر من نافذة القطار عند مداخلها، ليرى على الجانبين علامات البؤس والفاقة والعشوائية والقبح والقذارة، فإذا رفع نظره طالعته من ورائها العمارات الشاهقة والمبانى والقصور الأنيقة.
كانت عشش الترجمان، قبل إزالتها، إلى جوار الأحياء الراقية، وتطل أو يُطَلّ عليها -فلا مَطَلَّ لها- مبانى الأهرام الجديدة الرائعة، ومجمع محاكم الجلاء، وظهر العمارات الأنيقة المقامة على الشاطئ الشرقى للنيل.. فى منيل شيحة، وقد أدى ذلك إلى مشاكل وملمات، تتجاور القصور المنيفة المقامة بحدائقها الفيحاء الجميلة على شاطئ النيل، تتجاور مع العشش والمبانى الطينية، وأينما طاف البصر فى ربوع مصر، تطالعه الجيرة المدهشة بين العشوائيات وباقى الأحياء الراقية فى القاهرة وفى الإسكندرية والعواصم المصرية، وتكاد تلك العشوائيات تلاصق هنا وهناك معالم الترف والتنعم!
لم تظهر هذه العشوائيات فجأة تحت جنح الليل، وإنما تنامت وقامت تحت نظرنا حين اشرأبت وانتشرت منذ سبعين عاماً، لم تتصد لها الدولة إلاَّ مؤخراً، وسكتت عليها كافة السلطات حتى بلغ من ازدحامها كوارث عديدة ما بين شيوع المخدرات وزنا المحارم، واستحال على السلطات أن تدخل إليها، ولم تجد جزاءً لها إلاَّ الحرمان من توصيل المرافق، لتتفاقم المشكلة، ويستشرى الإحساس بظلم المجتمع، وباتساع الهوة بين الثراء والنعمة، والفقر والبؤس والفاقة، وشاع الاختناق حتى صارت القبور مساكن للفقراء والمساكين، فى مدافن الغفير والبساتين والإمام الشافعى وغيرها، وهى تلاصق الأحياء المجاورة، ملاصقة تدعو ولا شك للمقارنة والإهاجة.
ترى ماذا يكون شعور المعدم وهو يخرج من العشوائيات، أو من مساكن القبور، حين يطل فى الجوار بعد أمتار، على مظاهر الثراء والترف التى يتنعم فيها المتنعمون؟!
أجل، تسعى الدولة الآن، وليس أمس، لعلاج العشوائيات، وإقامة العمائر الجديدة محلها فى سياسة مرسومة، ولكن علاج تراكمات سبعين سنة، لن يتحقق بين يوم وليلة!
انفجرت وتبعثرت آثار الفاقة فى العشوائيات وزحفت إلى قلب المدينة، وفى تجاور مدهش تجد الفاقة تكشف عن وجهها أو قل معاناتها على الأرصفة وأمام فتارين وأبواب المحلات القشيبة المصروف عليها الملايين، وشتان بين المركبات والكارّو وما شابه فى بعض أحياء المدن، وعلى كوبرى إمبابة القديم الواصل بين القاهرة والجيزة، وبين السيارات الفارهة الجارية على ذات الكوبرى، وعلى مرمى البصر على كبارى الزمالك وأكتوبر ومايو والجلاء وقصر النيل!
حتى التسكع فى الشوارع والطرقات، وهو داء وبيل يجذب الكثيرين من مراكز العمل والإنتاج، إلى الأرصفة وأنهار الطرق والميادين، تتجاور فيه أحدث الأزياء والتقاليع الغربية، مع الملاءة اللف والجلباب، مثلما يتجاور الثرى المكتفى الناعم بثرائه، مع تنبلة الفقير المستسلم لفقره.
والأغرب، لمن يتابع الفضائيات، المستقلة والرسمية، أن تنشغل خريطتها بفنون الطبخ وطهى أجود أنواع الطيور واللحوم والأسماك، وصنوف الطعام التى لا يراها الفقراء إلاَّ على هذه الشاشات. هل دار بخلد أحد أن هذه الأجهزة يشاهدها الملايين، ويستقبلها الكافة، وهل فكر أحدٌ فى أثر مشاهدة هذه الوجبات الدسمة الفخيمة على من لا يرون اللحم، ويجاهدون لذواقه فى الأعياد والمواسم، أو يكتفون بالعظم وأجنحة الطيور وسقط الذبائح؟!
لماذا هذه البرامج التى تكرس الإحساس لدى الفقراء بالبؤس والعجز والفاقة؟!
ترى هل يمكن أن تستمر هذه المعادلة الغريبة فى أمن وسلام، وأن يمضى تجاور فرط الثراء والترف وفرط الفقر والحاجة بلا أخطار أو محاذير؟!
وهل يليق بمجتمع تعانى أغلبيته من الفقر وهبوط مستوى المعيشة، ألا يلتفت أو يتفطن إلى مشاعر وأحاسيس الفقراء والمهمشين، فيلاحقهم بما تعرضه مرئيات التلفاز الأرضى والفضائى، وهى تعرض على الجميع فى المقاهى، من مشاهد الثراء المستفز، وبذخ الأفراح الأكثر استفزازاً.. يرقبها المعدم بعين جوعه وحاجته وإملاقه، وليس أمامه سوى اجترار الأسى، وربما الغضب والحقد.
رغم معاناتنا من ضعف الإنتاج، وانعكاس ذلك على قيمة العملة الوطنية، يدهشك أن ترى عدد السيارات الهائل الذى يجرى ليل نهار، وفى أوقات العمل، فى شوارع القاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات. من أين وإلى أين؟! لا أحد يدرى أو يفهم سبب هذه الزيطة!
بات التسكع بالسيارات ينافس تسكع المارة، وسادت ثقافة البطالة والفراغ والتسكع، وتوارت ثقافة الجد والعمل والإنتاج، وانكفأ كل فرد على ذاته، لا يرى إلاَّ ما يريده أو ما يريد أن يراه. الثرى هانئ بثرائه وترفه وتنعمه، والفقير ممرور مغلوب بفاقته وإملاقه، وبين هذا وذاك تتنامى تلال من التراكمات النفسية التى لا يجوز عدم التفطن إلى تداعياتها إذا ما تركت أسبابها على حالها!
لا يمكن لفرط الثراء والترف أن يأمن على نفسه وعلى المترفين ما لم يقدم إلى فرط الفاقة مشروعات إنتاجية، كبيرة وصغيرة، وفرص عمل حقيقية تعوض مرارة الفقر وذل الحاجة.
فهل قام فرط الثراء بواجبه فى توسيع الفاصل بين الكلمتين إلى المجتمع بما ينهض به؟!