منذ بدأ ربيع الثورات العربى يزحف إلى المنطقة العربية، تبدلت أحوالها، وغزت الشيخوخة إنسانية مجتمعاتها، لم تكن دول المنطقة بهذا التمزق والفرقة مثلما يحدث الآن، لكن الأهم فى كل ما يطرأ من تطورات تلك الظاهرة المتنامية التى انتشرت بين قطاعات كبيرة التى أظهرت روح الاستعداء والأحقاد لبعضها، لم تكن تلك النظرة متفشية كما يحدث الآن، مثل الفيروس الذى يستعصى التغلب عليه، فماذا حدث للوعى الجماهيرى العربى؟ ولماذا تبدل الحال بهذا العمق من النقيض إلى النقيض؟ كأن بركاناً خامداً فقدت الطبيعة السيطرة على غضبه فانطلق هادراً يحرق كل ما يقابله، وأول ما احترقت كانت جسور التواصل والمودة؟ فأبحرت سفن التعاضد والتوحد بعيداً. لم تنتكس قضية العرب «فلسطين المحتلة» مثلما يحدث الآن، ولم تفقد الشعوب تعاطفها مع الفلسطينيين ومأساتهم مثلما يحدث الآن!
تبدل الفكر من التعاطف إلى الهجوم والشتائم، انجرفت القناعات الثابتة مع وحل سيول التطبيع التى جرفت حقائق التاريخ، فأصبح «المسجد الأقصى»، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، «معبداً يهودياً»!
المسجد الأقصى الشريف، الذى أسرى إليه الرسول الكريم سيدنا محمد من المسجد الحرام القابع فى رحاب مكة ويحج إليه ملايين المسلمين فى كل عام!!
تجاسرت البذاءة وتمادت لتصبح لسان حال الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم إسرائيليى الهوى ليعتبروا أن كل الفلسطينيين شحاذون وبلا شرف، هكذا ودون سابق إنذار يتطوع الإعلامى السعودى «فهد الشمرى» ليبث سمومه ويشن الحرب على الفلسطينيين فيصفهم بالشحاذين وبلا شرف، وأن المسجد الأقصى معبد لليهود، معتبراً أن الصلاة فى مسجد بأوغندا أبرك من الصلاة فى القدس ومن أهلها!
لم تكن تلك التصريحات الشاذة والغريبة هى الوحيدة، فقد شارك فيها الباحث فى الحضارات العربية القديمة الصحفى السعودى «الشريف» حين قال فى مقابلة للإعلام الإسرائيلى، على هامش مؤتمر البحرين، إن المسلم هو امتداد لأنبياء بنى إسرائيل، وإن اللغة العبرية برأيه هى لغة لسان أنبياء الله مثل الملك داود، أشعيا، أرميا، دانيال، يوشع، معبراً عن حبه للغة العبرية التى يجيدها، مشككاً فى أحقية المسلمين بالمسجد الأقصى!
ثم جاءت تصريحات وزير الخارجية البحرينى، على هامش ورشة البحرين، ليصب الزيت على النار حين قال لموقع «تايم أف إسرائيل» إن بلاده تعتبر أنه يمكن للورشة الاقتصادية تغيير اللعبة بذات مستوى اتفاق سلام كامب ديفيد عام 1978 بين إسرائيل ومصر، معلناً دعمه لحق إسرائيل فى الوجود كدولة مع حدود آمنة، واعترافه بأنها «باقية هنا»؟!
واليوم، يعلن رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلى «يوسى كوهين» افتتاح وزارة خارجية بلاده مكتباً تمثيلياً فى سلطنة عمان فى خطوة اعتبرها جزءاً مرئياً فقط من جهد أوسع بكثير لا يزال طى السرية والكتمان!
لقد هللت وسائل الإعلام الإسرائيلية واحتفت بالتصريحات التى أطلقها بعض السياسيين والنخب العرب، فلم تكن تستطيع الدعاية لنفسها والتسويق لمشروعها الصهيونى أفضل من ذلك، لكسر حاجز الخوف من التماس معها والتسويق لأحقيتها فى الوجود الآمن على جثث أصحاب الأرض الأصليين، وفى قول آخر الذين باعوا أراضيهم وأنفقوا أموالها على المجون فهم خونة ومأجورون؟!
اللافت أن تلك النغمة بدأت تتزايد ويتعالى صداها بين شرائح وقطاعات واسعة من المجتمعات العربية وليس كلها، فالتعميم هنا ظالم، لأنه كما يوجد الكارهون هناك المحبون المدافعون عن فلسطين وقضيتها وما زالوا مؤمنين بثوابتها وحقوقها.
فهل من قبيل الصدفة أن تتعالى الأصوات العربية جهاراً فى هذا التوقيت لتكون لسان حال الدعاية الإسرائيلية؟! بل تتمادى لأكثر من ذلك وتتغزل بلغة إسرائيل وقداستها لأنها لغة الأنبياء، والتشكيك فى أحقية المسلمين بالأقصى، والهجوم على الفلسطينيين دون مبرر ووصفهم بالشحاذين وبلا شرف، أم أن المستتر بدأ يظهر للعلن، وطريق التطبيع العربى الشعبوى مع إسرائيل بات ممهداً، ليسهل المرور إلى «صفقة القرن» التى يتم تطبيقها فعلياً لمن لا يعلم منذ اعتلى «ترامب» كرسى الرئاسة الأمريكية؟! وإن كانت بالأمس القريب تقتصر على أنظمة الحكم فقد بدأت الآن تتفشى بين شرائح من الجماهير العربية التى لم تجد غضاضة فى الإعلان عنها والتباهى بها، بعد أن كان مجرد التفكير فى التصالح والتعاطى مع إسرائيل خيانة للإجماع العربى وللهوية العربية التى ذاقت الويلات على أيدى الصهيونية سواء بالحروب مع إسرائيل أو بالمخططات والمؤامرات والتجسس.