يا سيدتى: أعرف أن أمهات كثيرات يتهربن من تمكين الآباء من رؤية أبنائهم، وأن التهرب والتملص الذى تمارسه بعض الأمهات قد يصل ببعض الآباء إلى إهمال الرؤية وتركها، والرضا بالمقسوم، وأعرف أيضاً أن كثيراً من الأمهات قد ضقن ذرعاً بتهرب الآباء من مسئولياتهم المادية والمعنوية، ولا يجدن سبيلاً أو وسيلة إلا المكايدة وحرمانهم الرؤية انتقاماً ومعاقبة، وأعرف أيضاً أن آباء كثراً يتهربون من سداد نفقة الأولاد على ضآلتها وقلتها، وعلمهم بعدم كفايتها لطلبات أولادهم، بل الغريب أن يكتفى الأب بالمبلغ الزهيد الذى تقرره المحكمة على الرغم من يسره وثرائه وقدرته المالية، بل وربما تكون النفقة التى يدفعها على مضض وضيق لا تساوى سهرة أو عزومة يدفعها عن رضا وطيب نفس، لكنها أيضاً المكيدة والغيظ والغضب، الذى يدفع تكلفته الأولاد، ولو انتبه الطرفان للعواقب الوخيمة لهذه المكايدة وهذا الحرمان المادى أو المعنوى، لندما ندماً شديداً، بل وتنازل كل طرف عن حقه لصالح الأبناء، هذا يا سيدتى ما يراه الناس بأم أعينهم، والآراء عادة تتشكل حسب المواقف والظروف، ولكل أم وكل أب تجربتهما الخاصة، وربما يكون مصير الأسرة والأولاد مدفوعاً دفعاً بظروف خارجية وأسرية إلى خراب مرفوض من الطرفين، وأنا على يقين أن الآباء إذا قاموا بواجباتهم على الوجه الأكمل دون وصاية، لاستقامت الأحوال، وارتاحت الضمائر، وهدأت النفوس، وسارت مسارها الطبيعى، وربما أميل هنا ناحية الرجل وأرمى وأثقل عليه، فهو الطرف الأقوى وبيده تسير دفة الأمور، فيدفعها بإرادته للأصوب والأفضل، وهو الجانب الفاعل فى أغلب الأحوال.
ماذا بك سيدتى؟ قالت: مطلقة منذ خمسة عشر عاماً، الأولى من بناتى ذات السبعة عشر ربيعاً والثانية فى الخامسة عشرة، نفقة الاثنتين معاً ألفان من الجنيهات، والأب ميسور الحال، بل قل عنه «مليونير بالراحة»، فهو يعمل فى دولة خليجية ثروته تتخطى الملايين العشرة، ورفعت المحكمة النفقة إلى ألف وخمسمائة جنيه للواحدة منهما، دعنا من عدم قدرتى على تنفيذ الحكم منذ ثلاث سنوات، فأنا أبذل جهدى وعرقى، وأشترى يومى بغدى، وأستنزف اليوم صحة الكبر والهرم، فى سبيل تربيتهما تربية لائقة وتعليمهما تعليماً راقياً، إلا أنهما فى حاجة إلى حضن هذا الأب. تساءلت: هل تبحثين عن العودة إلى عصمته؟ أجابت: لا ياسيدى «رُحت بعيد» أنا لست باحثة عن العودة، أنا باحثة عن حق البنات فى هذا الأب، هذه المسافة الشاسعة بينهم قدر الجميع أن تتلاشى، هذا السند وهذا المعين حق لهما، دونه الوحدة قاسية وموحشة، والكون على اتساعه وزحامه واختلاطه ضيق وبارد وقارس، وأخشى عليهما برودة الأيام وصقيع المستقبل، النوم فى رحابه وفى ظل أنفاسه عميق وموصد الأبواب دون اقتراب، أخطار جمة تتباعد خوفاً ورهبة فقط من وجود الأب فإذا غاب أطل الخوف بوحشته دون حاجز أو حد، لحظات الخوف من شخطته ونرفزته لها مزاج خاص يتذكرها الأولاد ويتضاحكون فى الكبر حين يبتسم ولسان حاله يقول لهم: كنت داخلى مبتسماً وضاحكاً ورحباً وودوداً، الاشتياق والحنين إلى طبطبته وحنيته لهفة شبع بعد جوع وأمن بعد خوف، والانزواء والاحتواء والانطواء تحت كتفيه ضعف واستسلام لذيذ وممتع كالنوم الهادئ أو الرفقة الطيبة، والسير فى ركابه وخلفه وأمامه والبحث عن يديه للإمساك بهما لهما ملمس خاص، تشعرك بالدفء دون ملايين الأيادى الممتدة، انتظاره فى شرفة البيت عند عودته، والتنافس فى فتح الباب لها ضجيج وضحكة دون كل الضحكات، صحبة النادى والسينما والفشار وابتسامة الرضا، وحكاية عن البطلة والبطل والفتوة واللكمات والقبلات وضمة الأحباب فى نهاية الفيلم، الانتظار أمام المرآة لقراره عن طول الفستان وقصره ولونه، وتختمها إحداهما «بالزربنة» أثناء خلعه، وضحكة خبيثة من الأخرى إذا ارتدته، توصيلهما إلى المدرسة فى الصباح وترقب وصوله حين العودة مع ضحكات البنات لها اشتياق محبوب، حديث عابر عن الماضى ضحكة عن نكتة بالية قديمة، حدوتة قبل النوم على كتفيه، ريحة الأب فى البيت حتى لو مرة فى الشهر لها أريج وعطر خاص، كل أب له رائحة تعشقها البنات، حتى غضبه ونرفزته لها حكايات وأسرار، من حق ابنتىّ أن تلبسا هذا الرداء عند الحاجة والضرورة، ولا تخلعانه أبداً، هل هذا حق لهما أو واجب على الأب؟
هل نجبر الأب على الرؤية؟ قالت: نعم نجبره على ممارسة الأبوة كما يجب، فهو حق الأولاد، وليس تحت أمره ورغبته يمارسه بإرادته الحرة، الأبوة التزام، عقد موثق بين الأب والابن لا تنفصل عراه، ولا يفلت أحد منهما من تبعاته وبنوده والتزاماته، مدفوع القيمة مقدماً، حكم محكمة نهائى وبات واجب النفاذ، لا فكاك منه ولا تنصل بحكم القانون.
تريدين تشريعاً ملزماً يوجب النفاذ؟ نعم يا سيدى فهو حق والتزام وعهد وواجب لأطفال نحن وكلاء عنهم. يا سيدتى: أوافقك الرأى شرط أن يلتزم جميع الأطراف، ومشروط بالقيام بالواجبات كاملة، شرعوا هذا الأمر وألزموا الجميع، وتخطوا هذه المرحلة كما تخطاها العالم المتقدم، واتركوا التراث لأصحابه فهو لا يسمن ولا يغنى من جوع، نريد مجتمعاً سوياً ليس مريضاً. نداؤك يا سيدتى أرفعه إلى أصحاب الشأن والأمر!