ما الذى يرجوه الآدمى من حياته؟ هذا سؤال لا يكاد يطرحه إنسان عادى على نفسه وهو جاد فيه.. لأن حياتنا، أعنى حياة كل منا، ليست مشروعاً بشرياً نحاول تنفيذه يحتمل أن ننجح فيه أو نفشل، فنستمر فيه أو نكف عنه إلى سواه، وإنما هى وجودنا ذاته وكله.. ونحن جميعاً نقبلها قبولاً فطرياً غريزياً بلا أدنى مناقشة أو تشكك على أنها أغلى وأثمن ما أُعطينا.. أياً كانت ومهما كانت ظروفنا. يستوى فى ذلك الحر والعبد، والطليق والمعتقل، والصحيح والعليل، والقوى والضعيف، والطفل والشيخ، والموسر وذو الفاقة.
فتعلقنا بحياتنا ليس تعلقاً بشىء نملكه.. لأننا لا نملكها، بل هى التى تملكنا. وهذا الواقع يُخفى عنا، أغلب الأحيان، دوام اشتغال الوعى بنصيب كل منا من المتاح أو المرجو أو المأمول كأحياء موجودين. وقد نظن بعض الوقت أنها ضمن ما تملكه (الأنا) لكل منا. والحال أن الحياة هى التى أوجدت (الأنا) وأنها هى التى أوجدت وعينا ولا وعينا وسائر أجهزتنا النفسية والفسيولوجية والاجتماعية.. وهى بداية كل شىء ونهايته بالنسبة للآدمى الذى يفقد كل ما عنده أو معه بما فى ذلك ذاته إذا فقدها، ويصبح لديه إذا عاش كل شىء يتخيله ممكناً.. على الأقل فى أحلامه وخياله، لأن خيالنا وأحلامنا ليست إلا امتداداً لوعينا الحى وتعبيراً من التعابير التى ليس لها حصر عن أننا أحياء.
فنحن نأخذ حياتنا أفراداً وجماعات بجميع ظواهرها ومعالمها من الحياة نفسها، دون أن نضيف إليها شيئاً ما جديداً لم يكن لديها فعلاً.. وجميع ما أضفناه أو نضيفه، معنوياً كان أو مادياً، خال خلواً تاماً من الحياة، وبحاجة دائماً إلى تدخل آدمى ليُكسبه المعنى والغرض والوظيفة التى تعطيه قيمة فى نظر الأحياء.. ويظهر مواته وخواؤه وإفلاسه إذا اختفى الآدمى من الوجود وانقطع اتصاله الحى بأى آدمى!
إننا لا نشعر بهذه الحقيقة وعمقها وإطلاقها لأننا أحياء داخلها، ولا يمكن أن نخرج منها إلا بظاهرة الموت الذى هو انقطاع سير حياتنا وتوقفها نهائياً.. وعندئذ يبدأ ثم يتكاثر ظهور أحياء متعددة تلتهم الأجزاء الرطبة فى الرفات وتترك الأجزاء الصلبة بعد خلوّها من كل عنصر حى.. تبلى على مهل كما تبلى الأحجار، وتنحل كما تنحل الرمال!
وأحياناً يُحدث الآدمى هذا الانقطاع فى سير حياته خطأ أو عمداً، وهما قليلا الحدوث لأن فطرة الإنسان تدفعه إلى المحافظة على نفسه، وتجنبه تعريضها للدمار بمسلكه.
وقتل النفس، على قلته، قد يعتبره الآدميون فى بعض الأحوال أمارة شجاعة وأنفة وتضحية، وفى بعضها الآخر أعراض خلل ويأس، وفى ظروف خاصة قد يكون وسيلة وحلاً للتخلص من تبريح الآلام التى لا تُحتمل ولا يُنتظر أن تتوقف.. وهذا تحظره العقائد بشدة فى الجماعات البشرية، مخافة شيوعه بالتقليد والمحاكاة، وامتثالاً منها لتثبيت الفطرة والمحافظة على بقاء النوع والجماعة.
امتهان الحياة!
وامتهان البشر لحياتهم أكثر شيوعاً بينهم من استعجالهم حتى إنسانيتهم.. وذلك يؤدى حتماً إلى تقصير أعمارهم وإضعاف أبدانهم وكفاياتهم وإفساد اتجاهاتهم وعاداتهم وتشويه طبيعتهم وفطرتهم بتسليط الكحول أو المخدر عليهم، أو بالمجون واللهو والسهر والإفراط فى الشهوات، وعدم المبالاة بمطالب الصحة البدنية والعقلية والنفسية، وينصرفون بإصرار إلى طراز من العيش المتمرد الجارف المتحدى المنساق باستمرار إلى المبالغة والإجهاد والزراية واجتذاب غير المتزنين والمندفعين والشواذ إلى محاكاتهم على قدر ما تسمح لهم به ظروف ومحيط أولئك المقلدين.. ولم تنجح العقائد فى مكافحة امتهان البشر للحياة، بل نجحت فقط، وإلى حدود، فى ستره وتشجيع الآدميين على التظاهر بالاعتدال والاستقامة، مع غضّ البصر عن فساد حقيقتهم والتواء سلوكهم وإتيانهم ما يأتون من المنكرات والموبقات فى غير علانية!
بين التدين المعلن والإباحية المستترة!
اعتاد الناس لأجيال وقرون على الجمع بين التدين المعلن المتكلف وبين الإباحية المستترة فى مظاهر تراعى، رغم معرفة الجميع لما يحدث خلفها ووراءها من واقع يندى له الجبين.. واستسلم معظم الناس إلى هذا الصلح العجيب فـى الجماعات المتدينة، وباتوا متعصبين متمسكين بمحافظتهم على المظاهر الدينية التى تطلق يدهم سراً يعلمه جميع الخلق فى ارتكاب ما يشتهون!!
هذا النفاق تغلغل فى معيشة المجتمعات المدنية والريفية، فلا يكاد يخلو منه بيت أو أسرة، وصار الناموس المتبع لدى الأبرار المحافظين على ملتهم المواظبين على العبادات المحتفلين بالأعياد والمواسم والمعتادين على زيارة المعابد والأضرحة.. الذين لا تخلو ملابسهم قط من شىء يقدس أو من تعويذة، ولا تخلو أيديهم من مسبحة، أو وجوههم ومفاصلهم من آثار سجود وركوع. وبات من أشد العنت والعبث محاولة رد أهل الأديان لالتزام الصدق والإخلاص سراً وعلانية، واستحال عيش المتدين بوجه واحد لا يغيره أو يبدله حسب مصالحه وأهوائه، أو تحقيق الاستقامة لديه بمعناها القديم القويم منذ امتزج باطل الناس بحقهم مزجاً لا سبيل لفصله، ولم يعد ممكناً إلا قبول هذا المزج الذى يزداد مع زيادة العدد والمصالح وسهولة الاختلاط وكثافته وقبول الصبر على زيادته!.. وهيهات أن يكون ذلك فى الإمكان إلى غير حد يقف عنده عقل العاقل واحتمال المتساهل واسع الصدر كثير الصبر!! سيما إذا لابس الاعتياد على مزج الباطل بالحق تغذية الفكر وتوسيع آفاقه بالتعليم والمعرفة غير المرتبطين بالعقائد والملل والنحل.. فإن هذا الاختلاط قمين بأن يُضعف من القدرة على العودة إلى الفطرة واستقامتها وبساطتها ومن الميل الغريزى إلى الصدق والوضوح ومن شدة التعلق بالإخلاص مع النفس والغير!.. لم يعد الآدميون فى هذا الزمان مستعدين للالتزام بهذه الضوابط التى باتت شاقة مرهقة تحتاج إلى تغيير كلى لكل شئون البشر الهامة!
حبل الإخلاص والخلاص
ورغم تطاول العهد على هذا النفاق، لم يزل غير مرضى عنه بصفة عامة، وما برح يُمارَس على أنه ينطوى على درجة من اللا أخلاقية أو الإثم، لأن الجماعة الإنسانية لم تستطع بعد توجيهه وإخضاعه لقواعد ملزمة اجتماعية تضبط ممارسته الشائعة بحيث يصبح من العادات الأخلاقية، سواء فى الأسرة أو المجتمع أو فى السياسة أو دنيا المال والأعمال.. وقد أورث هذا الجماعات البشرية شعوراً غامضاً شاملاً بالخطيئة، وإحساساً واضحاً فى جميع الطبقات بالقلق وعدم الاستقرار، ومعه عطف على العقائد والمذاهب المثالية دينية وعلمانية، وهذه تمجد الإخلاص للعقيدة والمذهب دون أن تحسب حساباً عملياً قابلاً للتطبيق يمكن أن يرتبط به البشر فى زماننا بهذا الإخلاص الذى تدعو إليه بحيث يتفق مع عاداتهم ومشاربهم وتعقيد علاقاتهم وما تقتضيه وتفترضه هذه العادات من الحرية والتلقائية ويسر التعامل والتواصل وضخامته، والحركة المادية والمعنوية التى لا غنى عنها فى الحضارة. وإلى أن يحصل هذا، وهو بعيد الحصول، سيزداد قلق المجتمعات البشرية أو عدم استقرارها، مهدداً بالانقلابات أو الحروب أو الأزمات أو الفتن، ما لم يتداركها الله بفضله ورحمته.