ماذا سأفعل فى الأعوام القادمة؟ ما أفضل شىء يمكن فعله؟ سأستعد للقاء الله، امتلاك العقارات والتجارة وتدريب الملاكمة، هذا لن يدخلنى الجنة، الله ينظر إلىَّ، الله لن يزكينى لأننى هزمت فريزر بطل العالم، الله لا تهمه ثروة بريطانيا أو أمريكا، فهو مالك كل شىء، الله يهمه كيف يعامل ويساعد بعضنا بعضاً، لذا سأُسخِّر حياتى وأستخدم اسمى وشهرتى لفعل الخير والتطوع لمساعدة الناس والعمل على وحدتهم.
الناس يفجِّر بعضهم بعضاً ويتقاتلون بسبب الصراعات الدينية، العالم يحتاج إلى مَن يساعده لإحلال السلام، وذلك حتى إذا ما مِتُّ أريد أن أرى الجنة التى أسمع بها، كلنا سيموت قريباً.
هذه ليست الحياة الحقيقية، انظر لنفسك، فجسمك يضعف ويشيخ، ولكن روحك لا تموت، جسمك منزل لروحك، ولذا فإن الله يختبرنا بمعاملة بعضنا لبعض، وكيف نعيش ونعمل من أجل منزلنا الحقيقى فى الجنة.
الماديات لا تعيش معنا طويلاً، فسيارتى الفارهة وهذا المبنى سيبقى، وسيتوفى مَن بناه، ملوك كثيرون مروا على بريطانيا ماتوا جميعاً، حتى أطفالك لا تملكهم، صدقونى أنت لا تملك حتى زوجتك، لذلك أهم شىء أن تجيب بصدق عن السؤال؟ ماذا سيحدث لك بعد موتك؟ هل ستُخلَّد فى النار أم فى الجنة؟
لم تكن هذه الكلمات لشيخ أو قسيس، ولكنها كانت لأشهر ملاكم عالمى فاز ثلاث مرات ببطولة العالم، حقق 156 انتصاراً منها 37 بالقاضية، والذى رفض التجنيد للحرب فى فيتنام، لأنها حرب ظالمة على شعب أعزل، فضحى فى سبيل مبادئه بأغلى لقب وسجن خمس سنوات.
وصل «محمد كلاى» البطل العالمى لهذه القناعات الرائعة التى ذكرها لمشجعيه ومحبّيه فى لندن.
هذه الخلاصة الرائعة لم ينفرد بها وحده، لكنها كانت خلاصة حياة الراحل مصطفى أمين، وهو من أشهر الصحفيين المصريين، والذى خاض معارك صحفية وسياسية وفكرية كلَّّفته السجن والعذاب.
وفى السجن وجد أن الشهرة والأمجاد كلها سراب، وأن صنع الخير وبذل المعروف ونصرة المظلوم هى أعظم رسالة، فتدفق نهر الخير فى حياته، وأدرك أن مشروع ليلة القدر لرعاية الأيتام الذى رعاه بنفسه هو الأعظم والأبقى من كل شهرته السابقة، فكانت وصيته لزوجته قبل وفاته «الاهتمام بمشروع ليلة القدر للأيتام» الذى يتسلم اليتيم وعمره يوم ولا يتركه حتى يتخرج فى الجامعة ويعمل ويتزوج وهو أول مشروع متكامل فى الشرق الأوسط.
وهى التى خلص إليها د. مصطفى محمود، حينما قال لصديقه الموسيقار محمد عبدالوهاب: نريد عملاً خالصاً نلقى به وجه الله، فقال «عبدالوهاب»: قدمنا فناً جميلاً وأنت كتبت عشرات المسرحيات والروايات، فقال له د. مصطفى: هل سأقابل ربنا بشوية كلام؟! موقفنا ليس مضموناً فى الآخرة.
فقال له «عبدالوهاب»: الفن رسالة عظيمة، فقال له د. مصطفى: هل سيقابل لاعب ربنا وكل محصوله عدة أهداف فى المرمى، أو ملاكم كل محصوله ضربات لخصمه.. والفن والكتابة أخذنا الأجر عليها كاملاً ومعها شهرة وجماهيرية عريضة نريد عملاً خالصاً لله وحده.
مضى كل فى طريقه فأنشأ د. مصطفى مسجد ومستشفى ومرصد محمود إكراماً لوالده، والذى أصبح من أهم المستشفيات الخيرية، عالج قرابة مليون مريض.
وفى آخر أيامه مع «عبدالوهاب» سأله ما الموت؟ فقال له د. مصطفى: «إنه أمر استدعاء للقاء ملك الملوك»، فبكى «عبدالوهاب» خوفاً من الاستدعاء، وفى آخر أيام د. مصطفى كان يقول: المستشفى هو أرجى عمل ألقى به الله.
وهذا ما خلص إليه حجة الإسلام الغزالى الذى خدم الدين والعلم، ولكن حياته كانت مشحونة بالسجالات الفلسفية والمذهبية والفكرية، وبعدها تصوَّف واعتزل للعبادة والعلم بالله وبأمر الله، وقال قولته الرائعة التى أرددها معه: «يا ليتنى أموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور»، أى الإسلام الفطرى النقى غير المؤدلج ولا ممذهب ولا مؤطَّر ولا معقَّد ولا مفلسف، فيه سلام النفس وسكينة الروح، يقوم على قاعدة «الرسل قدوتى والحب مذهبى».