سواء كان المهندس إبراهيم محلب رئيساً للوزارة الجديدة أم لا، فالمهم أن تكون لدينا وزارة متجانسة تعرف مهامها جيداً وتتسم بالكثير من الجدية ووضوح الرؤية وتنفيذ القرارات بسرعة وحسم.
والمسألة ليست أشخاصاً، رغم أهمية أن يكون الأشخاص ذوى كفاءة وخبرة بما هم مقدمون عليه، بقدر ما هى سياسات تناسب ظروف اللحظة وتحدياتها. فبالرغم من أن أعضاء وزارة «الببلاوى» المستقيلة هم أشخاص جيدون من حيث الخلفية العلمية والقدرة على تحليل الموقف العام، مما بعث قدراً من التفاؤل العام حين شُكلت هذه الوزارة كتعبير عن تحالف 30 يونيو التى تعرف مهمتها جيداً فى تطبيق خارطة الطريق ووضع أسس بناء مصر جديدة. إلا أن حركة الوزارة أخذت منحى آخر، وتمثلت السمة الغالبة فى تباين التوجهات الفكرية للوزراء كل على حدة، وبدلاً من أن يكون التنوع الفكرى مصدراً للثراء وتشكيل رؤية كلية تتسم بالشمول والديناميكية، رأينا العكس تماماً، إذ غابت الرؤية الجامعة للوزارة ككل وتأثر الأداء سلباً.
وقد رأينا تأثير غياب مثل هذه الرؤية الجامعة فى الأشهر الثلاثة الأولى لتشكيل وزارة الببلاوى، والتى عالجت فيها اعتصام الإخوان فى ميدانى رابعة والنهضة، إذ بدا سلوك الوزارة بطيئاً أكثر من اللازم ومتردداً، وحين قررت الوزارة ككل فض الاعتصامين ولو بالقوة، خرج علينا وزيران أو أكثر بالتصريح أحياناً وبالتلميح أحياناً أخرى بأنهم غير راضين عن فض الاعتصامين، وأنهما يفضلون الحوار مع الجماعة، فى حين صرّح د. حسام عيسى نائب رئيس الوزراء، بأن قرار فض الاعتصامين، ولو بالقوة أخذ بالإجماع، ولم يعترض أحد.
ويمكن للمرء أن يتفهم المواقف المترددة التى أبداها بعض وزراء حكومة «الببلاوى»، باعتبارها مواقف شخصية تُقال فى حدود الأماكن المغلقة، وأنها رسائل لمؤيديهم وأعضاء الأحزاب التى ينتمون إليها ونوع من المزايدة السياسية، ولكن ما يصعب تفهمه هو أن يتم الترويج لمثل هذه المواقف المترددة باعتبارها التحرك الأمثل الذى ضيعته الوزارة على نفسها، وبالتالى ظهرت الحكومة كمؤسسة منقسمة على نفسها، ولا تستطيع اتخاذ قرار كبير كفض اعتصامى رابعة والنهضة رغم بروز كل النتائج الكارثية التى سبّبها هذان الاعتصامان على مصالح الوطن ككل. وقد تكرر الأمر فى مناسبات أخرى كثيرة، مما روج صورة ذهنية عن وزارة «الببلاوى» كحكومة ضعيفة ومنقسمة على نفسها، وأسيرة شعار أن تحالف 30 يفرض تعايش الأضداد للحفاظ على زخم الثورة والتأييد الشعبى والسياسى معاً، الأمر الذى ثبت فشله تماماً.
وقد أظهر التأخر الشديد فى معالجة ملف جماعة الإخوان الإرهابية نوعاً من العبثية لدى قطاعات كبيرة من المصريين، التى نادت بسرعة اتخاذ القرار بجوانبه وأسانيده القانونية والأمنية والسياسية والاقتصادية، غير أن الحكومة بدت مترددة فى حسم الأمر أو أنها تنتظر حدثاً جللاً لكى تقدم على هذه الخطوة القانونية المشروعة، وهى اعتبار الإخوان جماعة إرهابية بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات ونتائج مهمة. وبالرغم من تعرّض وزير الداخلية لمحاولة اغتيال، وإقدام الجماعة على قتل الجنود والضباط وسقوط العديد من الشهداء والإضرار بالمصالح العامة والممتلكات الخاصة وتهديد المرافق الأساسية، فلم تتخذ وزارة «الببلاوى» أى خطوة جادة تجاه وضع الجماعة فى موضعها الصحيح كجماعة إرهابية، ورأينا تصريحات لوزير التضامن توحى بدراسة الموقف وضرورة استناد القرار الحكومى إلى حكم قضائى نهائى، مما عكس قدراً من التردد والانقسام داخل الوزارة التى بدت كجوقة موسيقى بلا مايسترو. ثم انتهى الأمر إلى التفجير الإرهابى لمديرية أمن الدقهلية، مما جعل الوزارة بلا مخرج سوى اتخاذ قرار اعتبار «الإخوان» جماعة إرهابية، ومع ذلك بدا تنفيذ القرار جزئياً وانتقائياً.
ولما كان «الببلاوى» شخصية اقتصادية ذات خبرة فى مجال البنوك والاستثمار وله علاقاته الخليجية واسعة المدى طوال عمله فى إحدى المؤسسات الكبرى فى دولة الإمارات، ظن كثيرون أن لدى الحكومة الكثير الذى تقدمه فى هذين المجالين، بحيث تعيد تنشيط الاقتصاد بمعدلات مرتفعة. لكن النتائج بعد مرور ثمانية أشهر ليست على ما يرام اقتصادياً، بل يبدو الوضع الاقتصادى المصرى بحاجة إلى جرعات إنقاذ كبرى وفق منهجية متكاملة لم تتوصل إليها الحكومة، وما نراه اليوم من شيوع الإضرابات الفئوية، التى تطالب بعضها بمطالب مشروعة من حيث المبدأ، إذن ما الذى نريده من الوزارة الجديدة؟ ببساطة شديدة ومع الأخذ فى الاعتبار طبيعة المرحلة الراهنة، كمرحلة انتقالية مهمتها الأساسية استكمال بناء مؤسسات الدولة وفقاً لخارطة الطريق، أن تقدم لنا تشكيلة وزراء يقدرون اللحظة وظروفها، ولديهم معرفة جيدة بملفات الوزارات التى يقبلون بها، وأن يتفاعلوا مع بعضهم البعض باعتبارهم فريقاً وليسوا نشطاء سياسيين يخاطبون أنصارهم على حساب الوطن ومصالحه. والحق أنه ليس مطلوباً تغيير كل الوزراء، فهناك وزراء قاموا بما عليهم بأفضل أداء ممكن، وهؤلاء يجب استمرارهم فى مناصبهم، وهم معروفون بالاسم لدى الرأى العام والجهات السيادية معاً. باختصار مطلوب وزارة تنسجم مع نفسها ومع الرأى العام ومع مؤسسات الدولة الأخرى. وهنا تأتى المهمة الأكبر لرئيس الوزراء الجديد. وإذا كان الأمر قد استقر على المهندس إبراهيم محلب كرئيس جديد للوزارة، فأعتقد أنه يعرف جيداً من يجب التخلى عنه ومن يجب أن يستمر. ويعرف أيضاً أن النشاط الفردى للوزير دون رؤية جامعة للوزارة وانسجام داخلى، يكون عائده محدوداً وقد لا يأتى بأى عائد أحياناً.
المصريون تنفسوا الصعداء مع استقالة حكومة «الببلاوى»، وينتظرون حكومة تقدم لهم تفسيراً لما يجرى، وخططاً واضحة لما يجب أن يحدث، وقرارات محدّدة للأزمات اليومية التى تعصف بنا جميعاً، وأداءً رفيع المستوى يتناسب مع المخاطر المحدقة فى الداخل والخارج. أما نحن الشعب فعلينا واجب التمهل وعدم ابتزاز الوطن وتقدير المسئولية وتأجيل بعض المطالب التى أجلناها سنوات طويلة وليس هذا أوانها، على الأقل إلى أن تستعيد مصر عافيتها.