تمكنت أفكار محمد على المتعلقة ببناء مصر الحديثة من عقل النخبة المتعلمة التى صنعها على عينه، لكن عقلية «أدهم» المولعة بالحياة الخالية من المسئولية والمتحررة من القيود النظامية كانت تسيطر على المواطن داخل حوارى المحروسة وأزقتها وأسواقها. كان البسطاء يدارون ويماشون -كما وصف محمد على سلوك النخبة المحيطة به- ما يُفرض عليهم ويظهرون القبول له، لكن عقلهم كان شارداً فى «الحديقة والناى»، وقلبهم يحن إلى لحظة تمدد على الأرض فى أى مكان كان، وإشعال الشبك والغلايين والفرجة على الغوازى والاستماع إلى أناشيد وأقاصيص المنشدين والرواة. لم يكتف البسطاء بالمداراة والمماشاة بل فوجئ الوالى بحالة تمرد قادها واحد ممن تقمصوا شخصية «أدهم» الذى علمته الحياة الخشنة فى الخلاء وتجربته فى بيع «الخضار» -كما حكى نجيب محفوظ فى أولاد حارتنا- عدم الامتثال لكل ما يلقى إليه كما كان عهده فى البيت الكبير. إنه «حجاج الخضرى».
«حجاج» كان كبير تجار وبائعى الخضراوات فى القاهرة، ومن هنا أتى اللقب الذى خلعه المؤرخون عليه «حجاج الخضرى»، وثمة لقب آخر أشار إليه «الجبرتى» ارتبط باسم «حجاج» وهو لقب «الرميلاتى» نسبة إلى ميدان «الرميلة» الذى كان للرجل صولات وجولات فيه. وميدان الرميلة هو الميدان المحيط بالقلعة وكان يمتد حتى قلعة الكبش (بالقرب من ميدان السيدة زينب) ويشكل جزءاً من الذاكرة التاريخية المصرية، حيث شهد العديد من الأحداث الجسام خلال العصرين المملوكى والعثمانى، من بينها على سبيل المثال المواجهات التى خاضها الشعب ضد السلطنة العثمانية ومن أرسلتهم من ولاة لحكم مصر بعد خروج الفرنسيين منها عام 1801.
كان حجاج الخضرى أحد الزعماء الكبار الذين حركوا الشارع المصرى المطالب بتولية محمد على الحكم عام 1805، وخلافاً للدور الذى لعبه عمر مكرم كان «الخضرى» زعيماً عضوياً يشكل جزءاً من النسيج الشعبى، لا يكتفى بإلهابه بالخطب أو الحديث باسمه داخل قصور أولى الأمر، كما كان المشايخ يفعلون، بل يعرف كيف يحشد الجموع ويقودهم لتغيير الأوضاع على الأرض. كان لـ«الخضرى» فضل كبير فى تولية محمد على الحكم، فقد تزعم الأهالى فى العديد من المواجهات الخشنة مع الأنؤود والانكشارية الذين كانوا يبحثون عن علوفتهم (رواتبهم) بسلب ونهب الأهالى. وجد «الخضرى» مثل غيره من أهالى القاهرة أن محمد على هو أنسب من يحكم مصر، فواجهوا السلطنة وكل من أرسلتهم من ولاة، وساندوه ودعموه حين عصى أمر السلطان بتنصيبه والياً على جدة. ظل «الخضرى» يقود الجموع ويحبط المؤامرات التى استهدفت إبعاد محمد على عن مصر، حتى تحقق المراد ووصل مندوب السلطنة بفرمان توليته مُلك مصر. يصف «الجبرتى» المشهد الذى أحاط بمندوب السلطنة وقد التف حوله أكابر الأنؤود والوجاقلية ومن خلفهم جمع كبير من الأهالى بالطبول والزمور يقودهم «حجاج الخضرى» وفى يده سيف مسلول. وقام «الخضرى» بعد ذلك بدور مهم فى حماية الأهالى من بطش الجنود المؤيدين لخورشيد، ومحاولات الأخير التمرد على النزول من القلعة ليصعد مكانه محمد على والى مصر الجديد.