كنا فى نوفمبر 2009 وتحضيرات مباراة مصر والجزائر الفاصلة للتأهل لبطولة كأس العالم 2010 تأخذ الفريقين والشعبين إلى ما هو أبعد من ساحات التنافس الكروى التقليدية بل وغير التقليدية أيضاً.
فمستوى الشحن بلغ مدىً غير مسبوق وبدأت وسائل الإعلام فى الجانبين الإعداد للمعركة، وشارك ناشطو وسائل التواصل الاجتماعى فى صب مزيد من الزيت على نيران التوتر التى ارتفعت ألسنة لهبها فلفحت وجوه الجميع وتراجعت الأصوات العاقلة فى صفوف الشعبين الشقيقين على أمل أن تمر العاصفة بأقل الخسائر، لكن هيهات فكل ثانية كانت تمر كانت تؤشر إلى أن يوم المباراة لن يمر بسلام.
ووقعت الواقعة وفاز الفريق الجزائرى على الفريق المصرى وتحولت شوارع مدينة أم درمان السودانية إلى ساحات حرب أريقت فيها الدماء.
لم تكن الدماء الجارية هى دماء المشجعين المصابين وحسب بل كانت دماء الشعبين بتاريخهما ونضالهما المشترك.
كنت فى هذه الأثناء أحاول مع نفر قليل من المثقفين المصريين أن نمد جسوراً للتواصل مع أشقائنا الجزائريين لنقطع الطريق على محاولات المهووسين من الجانبين، ونقطع الطريق، وهذا هو الأهم، على القبول الرسمى غير المعلن فى القاهرة والجزائر لما آلت إليه الأوضاع بين الشعبين وكل طرف يسعى لاقتناص الفرصة لتحقيق مكاسب شعبوية آنية حتى لو كانت على حساب علاقة ضاربة فى جذور الوعى الجمعى للشعبين وبدأنا العمل لوقف تداعيات تلك المواجهة، ونظمنا وقفة على سلالم نقابة الصحفيين رفعنا خلالها علَمَى مصر والجزائر وأحرقنا علم إسرائيل فى محاولة للتأكيد على وحدة الشعبين المصرى والجزائرى فى مواجهة عدو واحد، وبدأت مع الصديق محسن بدوى (رحمة الله عليه) فى الإعداد لصياغة بيان مشترك يوقع عليه عدد من المثقفين والإعلاميين المصريين والجزائريين نطالب من خلاله بوقف حملات التحريض والكراهية بين الجانبين والتذكير بالنضال المشترك للشعبين الشقيقين.
كان الأستاذ حمدى قنديل (رحمه الله) هو أول من فاتحته فى موضوع البيان فوافقنى على الفور وإن طلب منى التعامل بأقصى درجات الحذر مع الصياغة والمضمون لأن الجميع، بمن فيهم العقلاء من الجانبين، قد وقعوا أسرى لحالة الشحن النفسى التى تضرب بعنف فى هذه الأثناء.
وتوكلنا على الله ووضعت أنا الصياغة المبدئية للبيان ثم جرت بعض التعديلات على الصياغة لتبدأ المرحلة الأصعب وهى تمرير البيان على عدد من الزملاء والأصدقاء الجزائريين للحصول على توقيعاتهم وهى كانت المهمة الموكلة إلىّ بشكل أساسى بحكم أن جهة عملى آنذاك كانت تضم عدداً من الأشقاء الجزائريين، وبعد أخذ ورد وتعديلات من هنا ومن هناك صدر البيان ووزعناه على وكالات الأنباء وبثته وكالة الأنباء الفرنسية أولاً ومن بعدها «رويترز» وبعض المواقع المصرية، ثم بدأنا فى حملة تلطيف الأجواء مع مجموعة من الكتاب المصريين والجزائريين، منهم من دخل على الخط دون اتصال من أى منا ومنهم من تحمس بعد صدور البيان فتشجع وشاركنا الكتابة والتدوين ومنهم من كتب قبل وبعد البيان بذات الروح المخلصة الداعية لتجاوز الخلافات.
ومرت الأزمة مع جروح عميقة فى نفوس أبناء الشعبين، وبعدها كتبت أن المشكلة الأهم الآن هى توجيه البوصلة بشكل كامل للأجيال الجديدة من المصريين والجزائريين، أولئك الذين لم يشهدوا دعم مصر اللامحدود للثورة الجزائرية ولم يعيشوا سنوات دعم الجزائر المخلص لمصر أثناء معركة أكتوبر 73، لكنهم يحفظون جيداً مشاهد الشحن والمواجهات الكروية السخيفة منذ سنوات.
أتذكر هذه الأحداث التى أرويها للمرة الأولى بعد أن شاهدت عملاً مصوراً نفذه أشقاء جزائريون يشكرون فيه أشقاءهم المصريين ويدعونهم لتجاوز السنوات العشر الأخيرة وما شهدته من مشاحنات بين الجانبين، وقد أثار فى نفسى هذا العمل رغم بساطته شجون تلك السنوات العشر التى انقضت منذ وقوعنا فى فخ التعصب السخيف.
وأدعو أشقائى فى الجزائر لأن تكون هذه بداية طى صفحات التوتر لتبقى المنافسة داخل المستطيل الأخضر وخارجه فرصة ليبدع فيها كل طرف فى تشجيع فريقه لأن دماء المصريين والجزائريين التى سالت فى نضالنا المشترك أكبر وأهم بكثير من أى مباراة أو منافسة فى أى مجال.