الاستماع إلى الحكايات مثّل واحدة من الأدوات التى اعتمد عليها «أدهم المصرى» فى تسلية نفسه وصرفها عن التفكير فى هموم الحياة ومعالجة روحه المؤرقة بالإحساس بالمذلة بعد عز. اختار الحكايات التى تداعب حلمه الخالد بالعودة إلى موقع السيادة الذى كان ينعم به فى البيت الكبير، حيث لا سلطان إلا لـ«الجبلاوى» الذى يتساوى الجميع فى طاعته، فى حين لا يملك أحد على غيره سلطاناً من أى نوع. خطان أساسيان تجدهما حاضرين فى القصص والحكايات التى أُغرم بها «أدهم»؛ الخط الأول هو خط التحول من العبودية إلى السيادة، أما الثانى فيتعلق بالمرأة وأدوارها فى تزيين الأفعال لبطل القصة أو الحكاية.
يضع ويليام لين طبقات الحكائين فى عصر الوالى الكبير محمد على فى 3 فئات؛ فئة الشعراء، وفئة المحدثين، وفئة العناترة. خط الحكى لدى الشعراء واضح فهم يعتمدون على سرد الحكاية فى قالب شعرى قد يكون مستقيماً أو ركيكاً، ويتحدد لدى المحدثين فى السرد التقليدى للحكاية، ويختلط فيه السرد العادى مع الإشارات الشعرية فى قصص «العناترة». والمثال الشاخص على النوع الأول من الحكايات هو قصة «أبوزيد الهلالى»، والمثال على الثانية هو السيرة الظاهرية، أى سيرة الظاهر بيبرس البندقدارى، والثالث هو قصة «عنترة بن شداد» أو قصة «ذات الهمة». فى الأنواع الثلاثة من الحكايات تجد خط العبد الذى تحول إلى سيد بفضل قوته وشجاعته حاضراً، ولك أن تتخيل المنظومة الأخلاقية النبيلة التى كان يحلم «أدهم» بأن تحكم الشخص الذى أصبح سيداً بعد زمن من القهر والإهدار، كما تجد أدوار المرأة فى تسيير الأحداث ودفع البطل وتحريكه ظاهراً كل الظهور.
وتكاد تكون الطبقات الثلاث من القصص التى شاعت على المستويات الشعبية خلال حكم الوالى الكبير منتزعة من نفس أدهم المصرى وخارطة هواجسه. فـ«أدهم» دائب البحث عن «القوى النبيل» الذى يستطيع العيش فى ظله. فالقوى هو القادر على حمايته من بطش الكثير من الأيادى «المستقوية» التى لا ترحمه، ولن يكون فى الوقت نفسه ظالماً أو طاغياً عليه بل عادلاً يعطى كل ذى حق حقه. ولا تجد محدثاً أو روائياً من المحدثين والروائيين المعاصرين تمكن من لمس هذا الوتر فى «النفس الأدهمية» مثلما فعل نجيب محفوظ. فالمتأمل لرواية «الحرافيش» يستطيع أن يتتبع خط البحث الدؤوب عن الفتوة العادل الذى يعيد السيرة العطرة للناجى الكبير مجهول الأم والأب «عاشور» الذى رباه الشيخ «عفرة زيدان» على الأخلاق القويمة وعلى تسخير ما حباه الله من قوة فى خدمة الضعيف، وكان «عاشور» عند حسن ظن أبيه بالتبنى فعاش نبيلاً عادلاً يستخدم قوته الباطشة ضد الظالمين ويضعها فى خدمة المستضعفين، وبعد اختفائه المفاجئ ظل أهل الحارة جيلاً بعد جيل يحلمون بعودته، وما زالوا ماكثين فى انتظار من لا يجىء!.
وإذا كان موقف «أدهم» محسوماً من الفتوة العادل الذى يخرج من قلب الحرافيش، فإن موقفه من المرأة شديد العجب. حكيت لك أن «أميمة» -فى رواية «أولاد حارتنا»- هى التى زيّنت لـ«أدهم» اقتحام خلوة أبيه «الجبلاوى» للاطلاع على وصية الوقف، وقد صب «أدهم» لعناته عليها بعد سقوطه أمام الوالد وطرده من البيت الكبير، ورغم ذلك فقد احتفظت فى الأرض الخلاء بنفس القدرة التى تمتعت بها على تحريك «أدهم» فى البيت الكبير. ورغم غضبه اللسانى عليها إلا أن مواقف عديدة تثبت أن «أدهم» كان سعيداً بقدرة المرأة على تحريكه وتحديد بوصلته. وهكذا عاش «أدهم» حياته لاعناً لها بلسانه، محترماً قوتها وقدرتها على تحريكه فى قلبه أو جنانه.