حديث «الأولياء» لا يقل أهمية فى حياة أدهم المصرى عن أحاديث «الولاة»، وإذا كان الولاة فى حياته يمثلون مصدر الشكوى فإن الأولياء يمثلون محل الشكوى. فما أكثر ما اشتكى لهم، وما أكثر ما طاف حول قبورهم وطلب المعونة والمدد منهم، أما الأساطير التى نسجها حولهم فحدث عنها ولا حرج. وما تجده مسطوراً فى الكتابات التى تصف أساطير الأولياء أيام حكم الوالى الكبير محمد على باشا تجد قصصاً شبيهة له لدى أحفاد «أدهم» من الأجيال المعاصرة.
حكى ويليام لين فى كتابه «المصريون المحدثون» واقعة مثيرة شهدتها مصر عام 1834 تدور حول جنازة شيخ اعتقد فيه الناس الولاية. حمل الرجال نعشه فى مشهد مهيب وساروا به نحو المقابر، وما إن اقتربوا منها حتى شعروا أن أقدامهم مسمرة فى الأرض لا تقوى على المسير، أجمعوا على أن الشيخ لا يريد الدفن فى هذا المكان، احتاروا فى أمره وتساءلوا: أين يريد أن يدفن؟. طال بهم الوقت وهم على تلك الحال، حتى تمخّضت قريحة أحدهم عن حل اقترح فيه أن يتم تدويخ الشيخ باللف بالنعش، الذى يحمله عدة مرات حتى يلف رأسه ويحتار فى المكان ولا يدرك أين هو!. فعلوها وبعدها أحسّوا أن أقدامهم المسمرة قد نشطت من عقالها، فساروا بالنعش ودفنوا الشيخ حيث أرادوا. قد يكون هناك قدر من المبالغة فى بعض تفاصيل هذه القصة، لكن القليل مما حكاه ويليام لين يكفى للحكم على الطريقة التى كان أدهم المصرى يفكر بها وهو يرسم صورة «الولى»، كما أن مشاهدات عديدة فى الواقع تؤكد أن أحفاده ما زالوا يفكرون بالطريقة نفسها حتى الآن، ولعلك سمعت عن الواقعة التى شهدتها إحدى القرى المصرية منذ عدة أشهر عند دفن شيخ اعتقد أهل القرية فيه الولاية، وقد حكوا أن أقدامهم تسمّرت أمام المقابر مثلما وقع لأجدادهم عام 1834، وأبى صاحب النعش المسير بهم، فما كان منهم إلا أن دفنوه فى منزله، حيث قرّروا أن تلك كانت رغبته!.
ما زال «الأداهم الصغار» يعيشون الأوهام نفسها. وليس عليك سوى أن تنظر إلى أهل الريف وهم يطوفون حول مقابر الأولياء فى الموالد، أو إلى ولع أهل المدن بكل من نصب ذقناً على صفحة وجهه وانطلق يحدث ويروى ويحكى. الملايين التى يحصدها هؤلاء الدعاة تشهد على حجم الشعبية. الجهل والدجل صنوان كما تعلم. وليس المقصود بالجهل هنا غياب الشهادة، فالتعليم لا يؤدى إلى وعى فى كل الأحوال، بل قد يقضى عليه فى أحيان. وعبر عقود ممتدة من الزمان لم يجد «أدهم» من يضع له الأمور فى نصابها. لقد حاول محمد على محاربة الجهل والدجل المنتشر بين «الأداهم» المصريين بالتعليم، وتمكن من بناء نخبة متعلمة بذلت بعض الجهد فى تحرير العقل «الأدهمى» من الخرافة، لكن هذه الجهود كانت تضيع سُدى أمام كلمة تنطلق من فم دجال، أو أمام رغبة «والى» من الولاة الذين أعقبوا محمد على فى ترك الأمور على ما هى عليه. وتشهد كتب التاريخ على أن بعض خلفاء محمد على كانوا يستعينون بالعرافين والدجالين والدراويش فى تقرير بعض الأمور، وكان منهم وممن جاء بعدهم من يؤمن بأن الجهل والدجل وسيلة تجعل «الأداهم» أسلس قيادة. لم يجد «أدهم» عندما نزل إلى الخلاء من يحرّضه على المعرفة، بل وجد كثيرين يغذون شيطان الجهل بداخله ويدعونه إلى الاستسلام له.