من المفارقات، أو من الأمور المحيرة، أن ينتابك فى ذات اللحظة شعوران متناقضان، أو معنيان متضادان، والأغرب أن ينصرفا معاً إليك أو إلى الإنسان!
فى النصف الأول من الستينات، ولا أذكر الآن السنة بالضبط وربما سنة 1963، دُفِعْتُ دفعاً ضمن مجموعة من ضباط القضاء العسكرى بالمنطقة العسكرية المركزية، لزيارة ضمن زيارات ترتبها القوات المسلحة آنذاك، بتوجيه سياسى، إلى أسوان لمشاهدة السد العالى وقناة التحويل العميقة العملاقة، قبل أن تغمرها المياه مثلما غمرت معظم النوبة ومعابد أبوسمبل فصارت ذكرى أو شبه ذكرى لا تبدو منها سوى أطلال أو ذكريات!
لحظة أن مشيت سيراً على الأقدام، بقاع قناة التحويل، شعرت فى لحظة واحدة بالضآلة، وأنا أقف صغيراً ضئيلاً متطلعاً فى انبهار من موقفى فى القاع، إلى شموخ ارتفاع جدران أو ضفتى القناة، ارتفاعاً شاهقاً هكذا مجسّداً من القاع، تَحفُّهُ أعمال ضخمة لبوابات وتوربينات عملاقة، كبيرة بدورها خفاقة، فيها سوف تمر المياه حين يجرى التحويل، فتدير التوربينات وتولد الكهرباء، وتغمر أراضى الوادى بالمياه لتوالى بث الحياة على ضفتى النيل الذى قيل بحق إن مصر هبته.
فى النمل والنحل آية!
شعرت بالضآلة وأنا أنظر لأعلى، وأتطلع مبهوراً إلى هذا العمل الضخم العظيم الذى يجرى بقناة التحويل من حولى واقفاً فى القاع.. أكاد أرى نفسى «نملة» وسط هذه الجبال من العظمة!
النملة التى اجتمع فيها الضدان، ضآلة الحجم، وعظمة الإمكانيات، على اسمها سميت السورة السابعة والعشرون من سور القرآن المجيد. من الصبا وأنا أقرأ متأملاً فى سورة النمل عمن نبأها ونبأ النبى سليمان الذى أعطاه الله العلم والحكمة، قوله عز وجل: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىّ وَعَلَى وَالِدَىّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ» (سورة النمل الآيات 17 19).
ولم تكن النملة هى الوحيدة من مخلوقات الله ضئيلة الحجم عظيمة الشأن، فقد رأينا للنحل مملكة كمملكة النمل، وسورة باسمه أيضاً فى القرآن المجيد، فنقرأ فى سورة النحل قوله تعالت حكمته: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة النحل الآيتان 68، 69).
عظمة السد العالى
وعظمة الإنسان الذى بناه
بيد أن هذه العظمة فى السد العالى، عظمة إنسانية صنعها الإنسان، فهى هى مصدر الشعورين المتناقضين، أين أنت من هذه العظمة المدهشة التى صاغتها عقول ونفذتها أيادٍ معروقة تقرب إليك حديث «النملة» فى عالمها الساحر الذى يريك ماذا تصنع النملة لتدبر لنفسها عالماً فسيحاً بالقياس إليها، موازياً مع اختلاف المقاييس النسبية لما صنعه ويصنعه الإنسان على مدار التاريخ من حضارات قامت وبادت، وما بادت إلاَّ لتعاود القيام، وهذه هى النملة، ما قطعنا صغاراً طريق قافلتها الدؤوبة لاهين لاعبين بها معاكسين لها، حتى تعاود فى صبر مسيرتها التى قطعناها، لتواصل حمل المؤونة التى تشحنها بأضعاف أضعاف وزنها إلى المخزن الذى دبرته وهيأته لتضمن لنفسها منه استمرار أسباب الحياة، تماماً مثلما فعل يوسف الصديق ليضمن لمصر تواصل أسباب العيش فى السنوات السبع العجاف التى دلت عليها الرؤيا الصادقة!
مناوشات الشعور المتناقض!
ذات هذا الشعور المتناقض، يناوشنى حينما أجول فى بهو بيتى أو مكتبى، بين تلال الكتب والمؤلفات الغزيرة التى ملأت بها رفوف المكتبة هنا وهناك، ما أجول فيها وأتطلع أو أتصفح أو أستخرج شيئاً منها، إلاَّ ويبهرنى تراث الإنسانية العظيم الذى أراه فى جبال صفحات هذه الكتب والمؤلفات التى أخرجتها وتخرجها قريحة الإنسان الذى ضرب بعمق فى كل باب من أبواب العلم والأدب والمعرفة.. أين ضآلة ما بذلت العمر فى كتابته أو تصنيفه، وما حجمه وقيمته، أو بالأحرى ضآلته، أمام هذا الطوفان الذى استمر عمر الإنسانية، وأنتج هذه الجبال المتراكمة من الفكر والعلم والأدب التى تشهد على عظمة عقول عكفت سنوات بعمر التاريخ على إفراز هذا العالم الواسع المدهش فى كل باب من أبواب العلم والمعرفة، والأدب والشعر، والرواية والقصة، والفكر والفلسفة، والجغرافيا والتاريخ، والاقتصاد والاجتماع، وأين هو الوقت والعمر لقراءة أعمال هؤلاء العلماء، والفلاسفة، والمفكرين، والأدباء، والقصاص، والشعراء، والمؤرخين، والجغرافيين، والساسة، والحكماء، الذين ضربوا فى الآفاق، وألَّفوا آلافاً مؤلفة من المصنفات، لا مطمع لطامع مهما أنفق من عمره فى القراءة والاطلاع، أن يلم بملايين الملايين مما سطروه من صفحات لا يملك العاقل إلاَّ أن يتطامن ويحس بتواضع كل ما عساه أن يكون قد قدمه أمام هذا التراث الإنسانى الضخم العظيم!
يا لضآلة الإنسان حين ينظر إلى هذه الجبال من المعارف والعلوم والآداب!
ويا لعظمة الإنسان الذى أبدع هذه الجبال، وملأ بها صفحات التاريخ والإنسانية!
ويا لحكمة الإنسان حين يتطامن أمام هذه وتلك، ويدرك أنه نفحة الله تعالى وهبته، وأن له مهما كان حجمه رسالة واجبة فى الحياة، عليه أن يعيها، وأن يؤديها.
بقى أن أقول لكم، إن المجتمعات تخسر خسراناً مبيناً، حين تنفصل الصفوة النابهة الفذة عن تيار الحياة.. فهذه الصفوة هى عقل الأمة، وهى القاطرة التى تشدها إلى مراتب العظمة، وتحدد وتصوب لطريقها معالم الاستنارة والرؤية الصافية المجدولة بالحكمة والتجرد، والعبور بسفينة الوطن إلى شاطئ السلامة والأمان!