أن يشعر الإنسان بالغربة وهو خارج وطنه أو بعيد عن بلده وأهله وأصدقائه فذلك إحساس طبيعى لا غرابة فيه، يترجم عن الشعور بالغربة فى محيط غريب غير المحيط المعتاد الذى يعيش فيه.. ولكن ما يستدعى الالتفات، ويستأهل التفسير: الشعور بالغربة الذى يمكن أن ينتاب الشخص بداخل محيطه وعلى أرض وطنه وبين أهله وذويه وأصدقائه وزملائه ومعارفه.. ووجه الغرابة أن المكان وشاغليه المحيطين به، مألوفون له، يعيش بينهم ويتعامل معهم ويرتبط بهم بقرابات وصلات وعلاقات.. فكيف يشعر بالغربة وسط من يلاقيهم اليوم كما لقيهم بالأمس القريب والبعيد؟.. ما الذى طرأ أو استجد حتى يشعر بالغربة وسط المحيط القريب الذى عاش ويعيش فيه؟!
ليست غربة مفارقة الشباب
لست أقصد بغربة القريب فى محيطه، ما قد يستشعره الشخص حين يفارقه الشباب وتقتحمه الشيخوخة فينكرها ويستغربها ويستوحشها ويراوده النزوع أو الحنين إلى ماضى الشباب الذى ولَّى، أو ما يلم بمن يخسر ثروته ويستوحش الفقر بعد الغنى، وإنما أقصد إلى غربة القريب وسط محيطه، دون أن يفقد هو شخصياً ما يوحشه أو يدفعه إلى الإحساس بالغربة!
ترى هذا المعنى الذى أومئ إليه، فى كلمات الفيلسوف الأديب أبوحيان التوحيدى.. كان يقول:
«أغرب الغرباء من صار غريباً فى وطنه..
وأبعد البعداء من كان بعيداً فى محل قربه..
لأن غاية المطلوب أن يسلو عن الموجود..
وأن يغمض عن المشهود..
وأن يقصى عن المعهود!
يا هذا الغريب!!
الذى إذا ذكر الحق هُجِرَ
وإذا دعا إليه زُجِرَ!!»
ماذا هى إذاً؟
هى إذاً الغربة التى يحسها قائل الحق المتمسك به.. لأن الناس درجوا حكاماً ومحكومين على الترحيب بما يرضيهم، والضيق بكل ما يعتقدون أنه ينغص عليهم، ويفتح أبواباً يريدون لها أن تنغلق، ويثير أموراً يبتغون أن تتوارى وتندثر.. إيثار السلامة وعشق الذات وإيثارها على كل ما عداها آفة آدمية، يكاد لا ينجو منها إلاّ القلّة القليلة.. وأغلب الناس على عشق ذواتهم، وعلى كراهة الحق وإنكاره إذا خالف مصالحهم، وعلى النفور ممن يحرك السواكن ويوقظ ويقرع وينبه إلى العيوب والمثالب!
الغربة التى يعنيها «التوحيدى» ليست الغربة المادية.. وإنما الغربة النفسية التى يستشعرها القريب حين يحس أنه لم يعد يعيش فى دنياه التى تتواءم مع عقله وفكره وقيمه ومبادئه.. لا هو راضٍ بما درج عليه معظم الناس، ولا هم يمكن أن يقبلوا أو يرتاحوا لما لا يستطيع السكوت عنه فيفصح عنه ويصدح به!!
وقد يشعر بالغربة فى محيطه حين تتنامى ملكاته وأفكاره ورؤاه ومناقبه، تنامياً لا يجاريه ولا يلاحقه ولا يقبله خفوت شعلة المبادئ والقيم والإخلاص عند الغالب الأعم من الناس! وقد يزداد الفرق اتساعاً فيحرك لدى ضعاف النفوس الغيرة والحسد، ويوغر الصدور، وتعتل منه القلوب، وتلتهب الأهواء فيشعر القريب أنه غريب فى محل قربه بين من ضاقت صدورهم عن الاتساع له، أو قعد قصورهم عن التحليق معه أو اللحاق به!
الغربة فى الحياة، ليست الغربة المادية وكفى.. ليست فقط غربة البعيد مادياً عن بلده أو مرتع صباه، أو أسرته وأحبابه.. وليست فقط فى هجرته ولا انطلاقه بحثاً عن الرزق فى أسفاره أو سياحاته.. الغربة الأمض، الموجعة المؤلمة حقيقةً، هى الغربة النفسية.. هى غربة القريب.. أن يحس الآدمى بالغربة فى أرضه وبلده وبين أترابه وذويه وبنى جلدته وأهل عمله أو صنعته أو حرفته أو مهنته.. هذا الغريب هو الغريب الحقيقى بغربة تبدو كالداء الوبيل لا دواء ولا شفاء لها.. حين يحس الآدمى أنه غريب فى ذات محيطه بل أبعد البعداء فى محل قربه!!
هذا الإحساس بالغربة فى محيط الشاعر بها، إحساس متوالد متنامٍ لا يولد فى لحظة، وإنما يتشكل من ركامات تتوالى على أحاسيس وفكر وعقل ومشاعر الآدمى يتمخض بها فى داخله إحساس يتزايد بأنه لم يعد يحيا فى دنياه، وأن ما حوله قد انقطعت أسبابه به.. قد يكون هذا لضمور سعيه عن ملاحقة ما حوله، وقد يكون وهو ما يعنينى هنا، لأنه آفة هذا الزمان لتنامى ملكاته وأفكاره ورؤاه ومنظومة مناقبه تنامياً لا يلاحقه أو لا يقبله خفوت شعلة المبادئ والقيم والوقار والأمانة والإخلاص عند الغالب الأعم من الناس.. يحدث ذلك أكثر وأشد، حين تكون هذه المنظومة الرفيعة منظومة معبرة، تورى بنفسها بغير عرض ولا استعراض، فتحرك أشجاناً وغيرة وحسداً وأحقاداً، أو إذا كانت تتخذ من المواقف ما تضيق به صدور، وتعتل منه قلوب، وتتضرر منه مصالح وأهواء لم تعد قادرة على أن تسمع أى نغمة هى فى نظرها نشاز ما دامت لا تجرى ولا تصدر عما يتوافق مع ما تريد وتبغى!
هناك فترات ازدهار فى أعمار الشعوب والأمم، تتجلى فيها عبقريات وعقول، قد تعقبها أحياناً فترات خمول تخبو إن لم تنطفئ فيها معالم وأسباب الاستنارة والامتياز والتفوق.. هذه البيئة الخاملة الزاحفة سرعان ما تحاصر العبقريات والعقول النابهة المتقدمة والملكات الخاصة، فتتناقص من حولها شيئاً فشيئاً الدوائر التى تستطيع أن تتنفس فيها وأن تتحاور وأن تتفاعل معها قبولاً أو رفضاً، تسليماً أو اعتراضاً، هذا التفاعل الحى الذى يشكل العدسة الحقيقية للآدمى العاقل المفكر النابه الوقور الصادق المخلص.. مثل هذا تكون بلواه كبيرة، ومصيبته هائلة.. ليست ككل المصائب التى يقال عنها بصدق إنها تولد كبيرة ثم تصغر بمرور الوقت والانطمار والنسيان.. وإنما هى مصيبة تولد صغيرة.. وقد تكون فى البداية غير مرئية، ثم تكبر وتكبر ككرة الثلج المتدحرجة على سفح الجبل.. ذلك أن «الرتق» يزيد بمضى الزمن إلى «شرخ» يتحول شيئاً فشيئاً إلى «هوة» واسعة بين الأقلية النابهة الوقورة المفكرة الصادقة المخلصة، وبين الأكثرية التى يغلب عليها الخمول والتفاهة والسطحية والبهلوانية والمداهنة والرياء والنفاق وقلة الإخلاص والجدية.. هنالك يتوقف الحوار والتواصل بين هؤلاء وأولاء.. تتوقف الأقلية النابهة أو تقلع أو تكاد عن التحاور ويزداد شيئاً فشيئاً إحساسها بالاختناق وعدم القدرة على التنفس وسط الصخب التافه والضجيج العالى، فتؤثر الإعراض عن المشاركة وتلوذ بالصمت وتلتحف بغربتها التى قلنا إنها تولد صغيرة بل غير مرئية، ثم تتخلق وتتشكل وتكبر وتتحول يوماً بعد يوم إلى غول مارد يحفر فى الوجدان الإحساس الهائل بالغربة والانفصال انفصالاً يكاد يكون تاماً عن المحيط!!
الغربة فى المحيط العام
لا تقتصر الغربة إذاً على المحيط الخاص، بل تكون أنكى وأشد على المستوى العام.. حين يتواضع مُلاّك الأمر على محاصرة النابهين وتغليق السبل على أصحاب الرأى.. حول الدائرة الضيقة الممسكة بمقاليد الأمور، تتجمع دوائر أوسع من الخاملين وطلاب المنافع.. لا سبيل أمامهم فى ترخصهم إلاّ محاصرة العقول النابهة المتقدمة والملكات الخاصة، فتتناقص شيئاً فشيئاً أمام النابهين الدوائر التى يمكن أن يتواءموا معها، وتتقطع الأسباب بينهم وبين المجموع العام الذى يفقد بابتعادهم أو إبعادهم العقل الذى كان يمكن أن يقود ويسدد خطاه!
عند ذلك يضمر العقل الجمعى ويتراجع بالضرورة، ما دامت رياداته محاصرة ومعزولة تُقَابل بالصد والنكير، وبالسباب والقذائف واللكمات.. فيؤثر النابهون الالتحاف بغربتهم ويلوذون بالصمت ويعرضون عن المشاركة، وتتجذر الغربة وتتحول مع الأيام إلى إحساس هائل بالانفصال التام عن المحيط!
تخسر المجتمعات خسراناً كبيراً هائلاً، حين تنفصل الصفوة النابهة عن تيار الحياة.. فهذه الصفوة هى عقل الأمة، وهى القاطرة التى تشدها وتحدد وتصوب لطريقها معالم الاستنارة والرؤية الصافية المجدولة بالحكمة والتجرد.. ظنى أن ما يجرى الآن فى بلادنا، قد نحى قامات عالية كانت جديرة بأن تعبر بسفينة الوطن إلى شاطئ السلامة والأمان!