- من أجمل حكم ابن عطاء الله السكندرى: «رب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده، فمن بورك له فى عمره أدرك فى يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة».
- تفكرت فى حكمته البديعة وقلبت التاريخ الإنسانى فوجدت الملايين يعيشون سنوات طوالاً دون عمل ينفع أو علم يبقى أو سجية تؤثر، فتكاد حصيلة عمره صفراً، فلا نفع ولا انتفع، وبعضهم يكون عمره شراً عليه وأسوأ منه من يكون عمره شراً عليه وعلى الآخرين، فيصنع فى كل ساعة من عمره مأساة أو محنة للآخرين.
- وآخرون أعمارهم قصيرة ولكنهم حفروا فى ساعاتها ذكرى طيبة، وللذكر الطيب للإنسان عمر ثان، ونقشوا مع كل حركة من عقارب الساعة علماً نافعاً، أو رحماً موصولاً، أو صدقة جارية أو إحساناً إلى الخلائق، أو أعمالاً مجيدة، أو بطولات يشاد بها بين الخلائق.
- فهذا المسيح عليه السلام بلغ عمره 33 عاماً فقط، صنع فيها كل معانى الإحياء المادى «وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِى الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ»، والإحياء المعنوى فقد أنقذ البشرية من الحقد والأثرة والأنانية وجفوة الطباع ودعاوى الانتقام وأصلح القلوب وحارب التدين الشكلى وأعلى قيمة الإنسان ونشر التواضع والعبودية الخالصة لله.
- وهذا رسول الله أسس أعظم دين فى 23 عاماً فقط هى عمر البعثة، وربى أعظم جيل وأنشأ خير أمة وأقام العدل والحق وحول أمة العرب من أمة ضائعة ممزقة إلى أمة هزمت الفرس والروم وتصدرت الحضارة العالمية.
- أما يحيى بن زكريا «يوحنا المعمدان» فكان عمره 30 عاماً وكان «سَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِياً مِّنَ الصَّالِحِينَ»، وصدع بالحق وتحدى الظلم ونشر الهداية وبلغ الرسالة.
- أما أبوبكر الصديق فقد استطاع فى عامين ونصف، هى عمر حكمه، أن يؤدب مانعى الزكاة ويحفظ للفقراء حقوقهم ويعيد للدولة هيبتها وقوتها بعد تمرد المرتدين، وأن يجمع الناس جميعاً على قلب رجل واحد بحكمته وعدله ورحمته وحزمه.
- وعمر بن الخطاب استطاع فى عشر سنوات أن يقيم قواعد العدل والشورى فى الداخل وأن يكسر شوكة أعظم دولتين فى التاريخ الفرس والروم، ويرسخ فقه الدولة الذى لم يكن واضحاً قبله، ويسن ما يسمى بـ«أوليات عمر» ويحقق الموازنة الصعبة بين قوة الدولة وقوة المجتمع.
- أما الإمام على الخليفة العظيم فقد أسس فقهاً كاملاً وهو قتال أهل البغى مثل الخوارج، وهو الذى نام فى فراش الرسول وصاحب أعظم البطولات، فضلاً عن العلم والحكمة والزهد والورع كل ذلك وغيره فعله فى 59 عاماً.
- أما عمر بن عبدالعزيز، أسطورة الإسلام، فيحيى سنن العدل وإحقاق الحقوق ورد المظالم فى عامين ونصف، ما يعجز أى حاكم عنه، حتى تصالح الذئب مع الغنم فى لحظات مبهرة من التاريخ، ويعم الرخاء حتى أصبح الغنى يحتار أين يضع زكاته، فضلاً عن زهده وعزمات الحق والخير التى لم يستطع غيره أن يقوم بها فى تواضع مذهل وسماحة عجيبة.
- أما الإمام الشافعى فعاش 54 عاماً ابتكر فيها علوماً جديدة أهمها علم أصول الفقه.
- وحجة الإسلام الغزالى عاش أيضاً 54 عاماً ترك فيها أعظم تراث علمى وفقهى وصوفى وأصولى ويكفيه «الإحياء» حتى قيل «ليس من الأحياء من لم يقرأ الإحياء».
- والنووى عاش 45 عاماً وعمره كله بركة، فهناك آلاف الكتب مثل: رياض الصالحين ولكنها اندثرت ليبقى كتابه الذى لم يختلف عليه أحد ويدرسه الجميع، وكذلك شرحه لصحيح مسلم.
- إنها أمداد السماء التى أمدت هذه الأعمار القصيرة فباركت لحظاتها وساعاتها وحولت كل لحظة منها إلى نور يهدى الكون ويضىء الأرض، إنها بركة العمر يهبها الله للمصطفين من عباده.