من تجارب الحياة اكتشفت أن هناك نوعاً من الألم أشد قسوة من المرض أو الحنين أو الاشتياق لمن غابوا عنا، أو حتى ألم الفشل والخوف من المجهول والبحث عن الرزق وسط العالم الذى أصبح غابة مفتوحة يفتك القوى فيه بالأضعف ويقضى عليه -ألا وهو- ألم الندم ونغزاته، وإذا كانت هناك أنواع عديدة من اللافتات التى تقابلنا فى طرق السفر والشوارع التى نسير فيها يومياً وقد نراها عدة مرات فى خلال ساعات ولا نلتفت إليها أو نقرأها، ربما لأننا اعتدنا المشهد والحروف والنقاط وعلامات التساؤل والتعجب أو التحذير والرسومات والرموز والأسهم، واجتاز بعضنا اختباراً فيها ليحصل على رخصته الخاصة للقيادة إلا أننا جميعاً ننسى ونسهو ونخطئ ونتعرض للخطر والدهس والاصطدام، وقد يفقد البعض الحياة أو يقضى باقى عمره عاجزاً نتيجة عدم حذره وتهوره، فإن التجارب التى تجعلنا فريسة للندم غالباً ما نقابل قبل الغوص فيها العديد من اللافتات التحذيرية، وقد تكون على شكل نصائح من المحيطين أو إشارات ضوئية تطلقها قلوبنا أو حاسة الحذر لدينا أو صفارات إنذار تملأ آذاننا أو توقعات يشعر بها القلب وتزيد دقاته وانفعالاته بسببها أو ذكريات عن تجارب مماثلة انتهت نهايات درامية وتركت وراءها نغزات موجعة، إلا أن العناد يجعلنا نسقط فى تلك البئر من التجارب لنفاجأ أننا نعانى، وإذا أردنا أن نفسر ما نشعر به فى تلك اللحظات فإنه يمكن القول إنه الضمير الذى يسكن فى أعماقنا ويتعذب معنا إذا تجاوزت أفعالنا المنطق والمعقول.
أحدثكم أحبائى عن نغزات الندم، التى تغزونا وتدمرنا وتكسر قلوبنا إذا ما وقعنا فى أيدى من لا يحسن سكن القلوب، ومن لا يعرف جبر الخواطر، ويحول نفوسنا وقلوبنا وحياتنا كلها لشظايا صغيرة يصعب إعادة جمعها وترميمها، ذلك إذا ما أحسسنا أن اختيارنا كان الخطأ الفادح الذى قد نسدد أعواماً وأعواماً من أعمارنا ثمناً له، كما قد نفقد معنى السعادة وضحكة القلب ورعشة الفرح ونشوة النجاح والقرب والارتواء، وقد تناول علماء النفس والفلسفة الندم بالعديد من الدراسات والأبحاث منها ما قام به (تود ب. كاشدان) الباحث والاختصاصى النفسى والمستشار التنظيمى والمحاضر، الذى أكد أن للندم العديد من التعريفات فى علم النفس، فهو الشعور الذى ينتاب الإنسان عندما يدرك أن وضعه الحالى كان سيكون أفضل لو أنه قرر التصرف بشكل مختلف فى الماضى، أى إن نظرة إلى الوراء تشعره بعدم الرضا وتدفعه إلى لوم نفسه والتمنى لو أنه استطاع إلغاء الماضى أو تغييره، وذكر كاشدان أن هناك خمس حقائق علمية عن الشعور بالندم، أولها ولعل أهمها وأطرفها أن الأطفال أقل من ٧ سنوات لا يعرفونه، ويرجع السبب فى ذلك إلى أن الشعور بالندم مسألة إدراك ووعى، وهى متعلقة بالعمر والنضج الذهنى للطفل، أى إنها مسألة وقت، ومن ضمن الحقائق التى وصلت إليها الدراسة أن هذا الشعور متعلق بمدى إدراك الشخص لتسلسل الأحداث وتذكر ما فعله، كما أن الندم على ما لم يقم به الإنسان عادة ما يكون الإحساس به أقل نسبياً من استياء الشخص وندمه من تبعات قرار اتخذه، التى عادة ما تكون أشد وأكثر تأثيراً عن قرار لم يتخذه، وبالرغم من ذلك فإن الندم على قرار لم يتخذه الشخص لا يخرج من ذاكرته بسهولة وقد يستغرق وقتاً طويلاً ليتخلص منه، ويؤكد الباحث أن الندم شعور معروف وطبيعى إذا لم يتحول لوابل من الأسئلة المتكررة المعيقة للحياة اليومية، التى لا تفيد فى تصحيح المستقبل، وفى قاموس المعانى يقولون ندم على الشىء أى كره ما فعل وحزن، أما الأدباء فقد كتب أحدهم أن الذكريات ما هى إلا ندم ملطف، حماكم الله منه ومن ألمه ونغزاته.